fbpx

بواخر الكهرباء في لبنان:
قصّة صفقات بين “التيار الوطني” و”المستقبل” انتهت بالعتمة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعدما كان معارضاً، سرعان ما تحوّل جبران باسيل إلى أحد المدافعين الشرسين عن فكرة البواخر طوال فترة تولّيه منصب وزير الطاقة والمياه. لا بل وبسرعة فائقة، دخل احتمال اللجوء إلى البواخر “في القريب العاجل لسد النقص الحاد” إلى ورقة سياسة قطاع الكهرباء…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قصة بواخر الكهرباء تلخّص نمط الفساد المعتاد في لبنان: مناقصات يتم تفصيلها على مقاس شركة واحدة، تصممّ المناقصة لأجلها أساساً. على مدى سنوات، تم اعتماد خيارات كبرى لمجرّد تناسبها مع مصالح النافذين، بدل أن يكون المعيار الجدوى الماليّة والمصلحة العامّة. عقدت صفقات مبطّنة بالتوازي مع التلزيمات الضخمة، لتقاسم غنائم التلزيمات. 

النتيجة، فشل ذريع في إدارة الشأن العام، ومعاناة معيشيّة تتفاقم على غرار ما سيشهده المقيمون في لبنان من انقطاع إضافي في التيار الكهربائي.

العتمة آتية 

أعلنت شركة “كارباورشيب” التركيّة، صاحبة باخرتي إنتاج الكهرباء اللتين يستأجرهما لبنان، إيقاف مولداتها العائمة عن العمل، متحججةً بمستحقات تراكمت على الدولة اللبنانيّة على مدى الأشهر الـ18 الماضية، من دون دفع أو خطّة للدفع في المستقبل. الشركة مننت الدولة اللبنانيّة بصبرها طوال الأشهر الماضية، على رغم عدم وجود أفق للعلاقة الماليّة مع لبنان، مشيرةً إلى أنّه “لا توجد شركة يمكنها العمل في مناخ تكتنفه مثل هذه المخاطر المباشرة وغير المباشرة”. لكنّ بمعزل عن ادعاءات الشركة وتمنينها، كان من الواضح أن القرار الذي بدأ تنفيذه، لم يرتبط فعلاً بمسألة المستحقات الماليّة، خصوصاً أن الشركة لم تمانع طوال السنة والنصف السنة الماضيتين تأخير دفع هذه المستحقات، بالنظر إلى حجم الأرباح الضخم الذي كانت تحققه من الدولة اللبنانيّة. 

باختصار، لم تكن خطوة وقف الإنتاج سوى عمليّة ضغط تمارسها الشركة، في مقابل القرار القضائي الأخير الذي اتخذه القاضي علي ابراهيم، والذي قضى بالحجز على بواخر الشركة. قرار ابراهيم جاء على خلفيّة التقارير الإعلاميّة التي أعدها الصحافيان هادي الأمين ورياض قبيسي، والتي كشفت وجود عقود وتعهدات جانبيّة بملايين الدولارات، مقابل سمسرات مرتبطة بصفقة البواخر. وبما أنّ الشركة وقّعت عند تلزيمها ملف البواخر، تعهدت بدفع غرامة تصل إلى حدود 25 مليون دولار في حال ثبوت وجود سمسرات أو عمولات في هذا الملف، أتى قرار القاضي ابراهيم بالحجز على البواخر ومنع مغادرتها لضمان امتثال الشركة لهذه الغرامة في حال ثبوت الاتهامات، كما جاء قرار قطع الكهرباء من الشركة لممارسة الضغط والابتزاز على الدولة اللبنانيّة في مقابل القرار القضائي. 

“مؤسسة كهرباء لبنان” لا تنتج اليوم سوى 1300 ميغاوات من أصل 2200 ميغاوات يحتاجها لبنان لتأمين حاجات المقيمين، في حين تعتمد البلاد على المولدات الخاصّة لتأمين بقية التغذية الكهربائيّة. وبما أن بواخر الكهرباء وحدها مسؤولة عن إنتاج 380 ميغاوات من الكهرباء التي تنتجها المؤسسة حاليّاً، فإن قرار شركة “كاربورشيب” سيعني عمليّاً حرمان البلاد من أكثر من 29 في المئة من التيار الكهربائي الذي تنتجه المؤسسة. ولذلك تكتسب هذه التطورات الأخيرة حساسيّة استثنائيّة، خصوصاً أن مؤسسة الكهرباء تعاني من مخاطر أخرى تهدد لبنان بالعتمة الشاملة، كفقدان السيولة اللازمة لصيانة المعامل وتأمين الفيول. ومخاطر الوصول إلى سيناريو العتمة الشاملة، سيعني عمليّاً تعطيل قطاعات حساسة وحيويّة عن العمل، كالقطاع الطبّي الذي يجاهد اليوم للعمل في ظل أزمة “كورونا”، وقطاعات الاتصالات التي تعتمد على شبكة “مؤسسة كهرباء لبنان” للعمل.

ببساطة، كانت هذه التطورات تأتي لتدفيع اللبنانيين مجدداً ثمن صفقات تاريخيّة في هذا القطاع، وهو ما يحتّم اليوم فتح الملف مجدداً من ألفه إلى يائه، لكشف الجهات المتورّطة فيه وطبيعة المناورات المتنوعة منذ أكثر من 11 سنة. 

تحوّل موقف باسيل من البواخر

لم يكن جبران باسيل في بداية مشواره داخل وزارة الطاقة من محبذي فكرة اللجوء إلى البواخر، إذ يمكن العثور على مقابلة تلفزيونيّة في شباط/ فبراير 2010 يعتبر فيها أن هذا الخيار “كذبة على الشعب اللبناني”، لكونه يملأ الحاجة الظرفيّة للكهرباء إنما بكلفة باهظة جدّاً، ومن دون التأسيس لحل مستدام قائم على المعامل الدائمة. مع العلم أن باسيل أكّد في المقابلة نفسها أن ثمّة عروضاً أتت بالفعل إلى الوزارة طارحةً هذا الحل، لكنّه فضّل غض النظر عنها لرغبته بالعمل على خطة كاملة للقطاع. وفي الواقع، يمكن القول إن رأي باسيل في ذلك الوقت مصيب، لكون كلفة إيجار البواخر على مدى سنوات عدة تفوق كلفة إقامة المعامل الثابتة، ما يجعلها خياراً غير مجدٍ من الناحية الماليّة. كما يعني الاعتماد على خيار البواخر إدمان شبكة الكهرباء المحليّة على مصدر خارجي يحتاج إلى تمويل دوري بالعملة الصعبة، ما يضع البلاد أمام مخاطر العتمة عند حصول أي شح في التمويل، وهذا تحديداً ما حصل اليوم.

لكن بعد زيارة خاطفة لباسيل إلى إحدى هذه البواخر، التي كانت تمرّ بمرفأ بيروت في طريقها إلى العراق خلال صيف 2010، تغيّر رأيه بهذا الخيار بشكل غامض وغير مفهوم. 

بعدما كان معارضاً، سرعان ما تحوّل جبران باسيل إلى أحد المدافعين الشرسين عن فكرة البواخر طوال فترة تولّيه منصب وزير الطاقة والمياه. لا بل وبسرعة فائقة، دخل احتمال اللجوء إلى البواخر “في القريب العاجل لسد النقص الحاد” إلى ورقة سياسة قطاع الكهرباء، التي أعلن باسيل عنها في قصر الأونيسكو في تموز/ يوليو 2010. بين شباط وتموز، أي خلال أربعة شهر فقط، تحوّل موقف باسيل بشكل جذري تجاه هذه المسألة، في انعكاس مباشر لتبدّل المصالح والصفقات، كما سنكتشف لاحقاً. 

إقرأوا أيضاً:

“كارباورشيب” تدخل إلى المشهد

حين دخل لبنان مرحلة استدراج العروض المتعلّقة بخطة الكهرباء عام 2011، وتحديداً الجزء المتعلّق بالمعامل الموقتة، لم يذهب باتجاه تحديد دفتر شروط واضح لمشروع محدد تتم على أساسه مناقصة شفّافة في إدارة المناقصات، بل ترك مهمّة دراسة العروض والتقارير والتفاوض مع الشركات للجنة وزاريّة استعانت بدورها باستشاري أجنبي. وفي حصيلة هذا المسار، استبعدت اللجنة الوزاريّة 7 من أصل 9 شركات تقدمت للمناقصة، ما حصر المنافسة بين شركة “كاربورشيب” التركيّة وشركة أميركيّة أخرى، ليتم اعتماد خيار بواخر الشركة التركيّة في النهاية. وبالتوازي مع هذه التطورات، كانت بعض الشبهات تحوم حول شفافيّة هذه العمليّة، خصوصاً من ناحية بعض الشروط التي جاءت مفصّلة على قياس الشركة التركيّة لتنال التلزيم في النهاية. فعلى سبيل المثال، ساهم الشرط المتعلّق بسرعة ربط المولدات الموقتة بالشبكة، والذي تم تحديده بمهلة قصيرة جداً، بحسم المسألة لمصلحة الشركة التركيّة التي لم تكن تحتاج أكثر من 4 أشهر لتأمين البواخر، بسبب توفر البواخر مسبقاً لدى الشركة واستعدادها لهذه الصفقة بالذات مع شركائها المحليين.

البحث عن المصالح التي تقف خلف الشركة التركية وعملها في لبنان يقودنا إلى فهم سبب تفضيلها على كل ما سواها من خيارات. وكيل الشركة في لبنان لم يكن سوى نقيب المهندسين السابق سمير ضومط، المحسوب على رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، فيما شاركه تمثيل الشركة التركيّة محلّياً ابن شقيقته رالف فيصل، المقرّب جدّاً من رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل. وبالتوازي مع بدء الشركة التركيّة عملها في لبنان عام 2013، كان الثنائي ضومط وفيصل يؤسسان شركتهما الخاصة Energy Creative Solutions SARL، والتي استلمت أعمال الشركة التركيّة محلياً منذ تسجيلها في السجل التجاري في تاريخ 13-02-2013. 

بمعنى آخر، كان ثمّة ما يدل على أن شركة “كارباورشيب” كانت تعمل محليّاً بالشراكة مع شبكة من المتعهّدين التاريخيين في القطاع، المحسوبين على “تيار المستقبل” و”التيار الوطني الحر” ومصالحهما، علماً أن ضومط هو في الوقت نفسه صاحب شركة “الديار”، وكيلة شركة “برايم ساوث” الأميركيّة الموكلة صيانة وتشغيل معملي دير عمار والزهراني. 

عمولات فيصل ورعد

وليكتمل تقاسم مغانم الصفقة، تبيّن أنّ رالف فيصل، الشريك في تمثيل مصالح شركة “كارباورشيب” في لبنان والمقرّب من باسيل، وقّع تعهّدات بدفع عمولات ماليّة لفاضل رعد تحت ستار تقديم استشارات بيئيّة، علماً أن رعد مقرّب من كل من الحريري ورئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت نجيب ميقاتي ووزير المال في حكومة ميقاتي محمد الصفدي. التعهدات الجانبيّة نصّت على دفع عمولات تصل إلى حدود 0.8 سنت عن كل كيلواط/ساعة، قبل تعديل التعهد ليصبح مبلغاً مقطوعاً قدره 5.6 مليون دولار. بعدها، تم تخفيض المبلغ مرتين ليصل إلى حدود 3.1 مليون دولار في النهاية، قبل أن يحصل الخلاف بين الطرفين.

اللافت في هذه التعهدات، التي كشفها الصحافيان هادي الأمين ورياض قبيسي، هو أنّها سبقت تاريخ توقيع اتفاقيّة الدولة اللبنانيّة مع شركة “كاربورشيب” نفسها، فيما تم تعديلها لاحقاً بعد التوقيع، ما يعني أن جميع الأطراف المنخرطة في هذه التعهدات كانت تدرك أن “كاربورشيب” ستنال في المحصّلة التلزيم بموجب توزيع مدروس للمغانم. كما كان واضحاً أن هذه العمولات مثّلت أحد أسباب إعطاء التلزيم للشركة التركيّة، خصوصاً أن الاستشارات البيئيّة التي تم توقيع التعهدات تحت ستارها لم تحصل في الحقيقة، لا بل زج فاضل رعد باسم شركة بيئيّة لا علاقة لها بالموضوع في التعهّد للتمويه عن غاية العمولات المدفوعة والإيحاء بأن هذه المبالغ هي مقابل استشارات بيئيّة.

وهكذا، انكشفت عمليّة السمسرة ودفع العمولات عند كشف هذه التعهدات، ويبدو أن انكشاف هذه الفضيحة نتج عن خلافات ماليّة بين الطرفين، ما أدّى إلى تسريبها إلى وسائل الإعلام. وبعد وصول الملف إلى النيابة العامّة الماليّة، باتت “كاربورشيب” نفسها مطالبة بعمولة الـ25 مليون دولار، والتي تعهدت بدفعها في حال تبيّن أنها دفعت أي عمولات أو رشى للحصول على التلزيم. ولضمان دفع الشركة هذا المبلغ، تم الحجز على البواخر، الأمر الذي ردّت عليه الشركة بتعليق إنتاجها للكهرباء.

فصول لم تنكشف بعد

لم تكشف التطورات الأخيرة جميع فصول الفساد التي انطوت عليها صفقة البواخر، خصوصاً أن كل تلك الصفقات التي انكشفت ترتبط بالمرحلة التي تم فيها تلزيم ملف البواخر للمرّة الأولى بين عامي 2012 و2013. فمع اقتراب عقد الشركة التركيّة من الانتهاء بين عامي 2017 و2018، استماتت وزارة الطاقة لتلزيم الشركة التركيّة نفسها عقداً جديداً بقدر مضاعف من الإنتاج الكهرباء، يصل إلى حدود ل850 ميغاوات بدل 380 ميغاوات، ما يعني مضاعفة الكلفة على الدولة اللبنانيّة. ولتفوز الشركة التركيّة بالعقد من جديد، عمدت الوزارة إلى تفصيل دفتر شروط المناقصة على قياس الشركة التركيّة، ما أدّى إلى رسو مناقصات متتالية على عارض وحيد هو الشركة التركيّة نفسها. 

وبسبب المخالفات الضخمة والفاقعة في المناقصات، وبعد اعتراض إدارة المناقصات ودخولها في سجال طويل مع وزارة الطاقة على خلفية هذه الألاعيب، سقطت في مجلس الوزراء محاولة تلزيم عقد 850 ميغاوات الضخم للشركة التركيّة. لكنّ فريق العهد الوزاري نجح في أيار/ مايو 2018 بتمرير التجديد للعقد السابق لمدة ثلاث سنوات تنتهي في نهاية عام 2021، وهو العقد الذي يقضي بتلزيم الشركة التركية إنتاج 380 ميغاوات من الكهرباء فقط من خلال البواخر.

إقرأوا أيضاً: