fbpx

المرأة المصرية على منصة القضاء: لا يزال الطريق طويلاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

برهن القضاء المصري عبر تاريخه، قبل ثورة يوليو، وبعدها، في ذروة فترات النهضة والتطوير، وفي قاع فترات التراجع والانحطاط، وكذلك قبل ما يسمى بالصحوة الإسلامية وبعدها أيضاً، على قدر استثنائي من الثبات على موقفه المعادي بعمق لحق المرأة في العمل كقاضية مساواة بالرجل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعلن مجلس الدولة المصري مطلع حزيران/ يونيو 2021 عن قبوله “توجيهات” الرئيس عبد الفتاح السيسي  بتعيين قاضيات في المجلس، وكذلك قرارات الجلسة الاستثنائية للمجلس الأعلى للقضاء والتي كان منها قبول التحاق النساء بالنيابة العامة والهيئات القضائية، بالطريق الاعتيادي وبالمساواة بالرجال.

بدت هذه الخطوة انتصاراً من دون النظر إلى عقود ماضية استُبعدت فيها النساء من اعتلاء منصة القضاء في مصر، بزعم “مراعاة الأعراف والتقاليد”، ومع القرارات الجديدة علينا أن نتابع ما سيحدث، هل سيكون هذا “الانتصار” شكلياً ومشروطاً بحيث تحكم القاضيات في جرائم معينة دون غيرها وما التحديات أمامهن؟

المعركة بدأت منذ نهاية الأربعينات

عام 1949 تقدمت عائشة راتب، بعد تخرجها من كلية الحقوق، بأوراقها للتعيين في مجلس الدولة، الهيئة القضائية الأعلى في مصر والأحدث إنشاء حينها، مثل زملائها الذكور. عندما رُفض طلبها، رفعت دعوى أمام محكمة القضاء الإداري، للطعن على القرار، ولكن المحكمة التي انعقدت جلستها في شباط/ فبراير 1952 برئاسة المستشار عبد الرازق السنهوري، قضت بعدم أحقية راتب، وقالت في حيثيات حكمها أن جهة الإدارة قد استخدمت سلطتها التقديرية وراعت “أحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد”.

وأكدت المحكمة أيضاً أن رفض تعيين راتب في مجلس الدولة لا يتضمن أي “إخلال بمبدأ المساواة قانوناً”. وبينما فوت هذا الحكم على عائشة راتب أن تكون أول قاضية مصرية وعربية فقد نجحت لاحقاً في أن تكون ثاني وزيرة، وأول سفيرة مصرية، وأول رئيسة امرأة لقسم القانون الدولي بكلية الحقوق، ثم عضوة في لجنة كتابة دستور 1971، والوحيدة حينها التي اعترضت على الصلاحيات الواسعة التي منحها هذا الدستور للرئيس الراحل محمد أنور السادات.

استغرق الأمر تسعة عشر عاما قبل أن تتقدم امرأة مصرية أخرى مطالبة بالحق في التعيين في مجلس الدولة. كانت هانم محمد حسن هذه المرة موظفة إدارية بالمجلس، وتقدمت أمام محكمة القضاء الإداري أيضا بطعن على قرار رفض تعيينها بوظيفة “مندوب” بمجلس الدولة.

مجدداً، قضت المحكمة في يونيو من عام 1979 بعدم أحقيتها، ولكنها هذه المرة لم تستند إلى السلطة التقديرية لجهة الإدارة صاحبة القرار، ولا بررت هذا القرار بالعرف والتقاليد، بل استندت إلى المادة الثانية من دستور 1971 والتي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. وكذلك المادة  (11) من الدستور والتي تنص على أن “تكفل الدولة مساواة المرأة بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية”، وأكدت المحكمة أنه لا يجوز التعقيب على قرار جهة الإدارة المستند إلى أن الشريعة الإسلامية لا تجيز أن تتولى المرأة منصب القضاء.

في الفترة التي مرت بين هاتين المحاولتين لسيدتين مصريتين لدخول سلك القضاء، كانت النساء في بلدان عربية أخرى يسبقن نساء مصر إلى منصات القضاء. عام 1959 أصبحت العراقية زكية حقي، أول امرأة عربية تصبح قاضية، توالى بعد ذلك تعيين النساء قاضيات في البلدان العربية، في المغرب (1961)، في لبنان وتونس (1966)، في اليمن (1971)، في سوريا (1975)، في السودان (1976)، وفي فلسطين (1982)، وفي ليبيا (1991)، والأردن (1996).

إقرأوا أيضاً:

تهاني الجبالي أول قاضية بقرار رئاسي وبصور استثنائية

سبق ذلك كله تعيين أول قاضية مصرية، وهي المستشارة تهاني الجبالي، عام 2003، بقرار رئاسي وبصورة استثنائية في المحكمة الدستورية، وبقرار سياسي للرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وربما بتدخل مباشر لقرينته سوزان مبارك. أتى ذلك أيضاً بعدما أصدر الأزهر عام 2002 بأنه “لا يوجد نص صريح قاطع من القرآن أو الأحاديث النبوية يمنع المرأة من تولي وظيفة القضاء.” ومع ذلك أثار تعيين الجبالي جدلا عنيفا في المجتمع، وظل الصوت الأعلى هو للمتمسكين بالحظر الديني لتولي النساء مناصب القضاء.

بعد أربعة أعوام، في عام 2007، وبقرار رئاسي جديد، عُينت 31 من عضوات النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة كقاضيات في محاكم ابتدائية مثل محاكم الأسرة والمحكمة الاقتصادية. ولم يمر عام قبل أن يعين المجلس الأعلى للقضاء 12 امرأة أخرى، عام 2008، من خلال مسابقة أجراها. ولكن تعيين المرأة في القضاء عاد إلى الجمود مرة أخرى طوال سبعة أعوام، ولم تعين دفعة جديدة من القاضيات إلا عام 2015.

نسبة القاضيات 0.5%!

توقف تعيين القاضيات بعد ذلك حتى عامنا هذا عند إجمالي لعدد القاضيات في مصر قدره 66 قاضية، يمثلن 0.5 في المئة من إجمالي عدد قضاة مصر، وهي نسبة متدنية للغاية، بخاصة إذا ما قارناها بدول عربية مثل الجزائر ولبنان اللتين تقترب نسبة القاضيات في كل منهما من نصف إجمالي عدد القضاة. وإجمالاً لا من مجال تذيلت فيه مصر بقية الدول العربية من حيث تمكينها المرأة بقدر القضاء.

وعلى خلاف أمور أخرى كثيرة فليس بالإمكان لوم السلطة التنفيذية بهذا الخصوص،  فلعقود طويلة تضاءلت المساحة التي مارست فيها السلطة القضائية قدرا من الاستقلالية، فيبدو أن الإصرار على استبعاد النساء من منصات القضاء كان ولا يزال أبرز ما مارس فيه رجال القضاء استقلالهم عن السلطة التنفيذية.

مجلس الدول أوصد أبوابه في وجه المرأة

ظل مجلس الدولة إضافة إلى النيابة العامة موصِدا الأبواب في وجه المرأة حتى يومنا هذا، وهو الواقع الذي يفترض أن يتغير في بداية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، بعدما أعلن مجلس الدولة عن قبوله توجيهات رئيس الجمهورية في آذار/ مارس الماضي بتعيين قاضيات في المجلس، إضافة إلى قرارات الجلسة الاستثنائية للمجلس الأعلى للقضاء والتي كان منها قبول التحاق النساء بالنيابة العامة والهيئات القضائية بالطريق الاعتيادي وبالمساواة بالرجال.

 تحقيق هذه الخطوة لم يكن ليتم من دون ضغوط هائلة على القضاة، وحتى ندرك مدى تمسك قضاة مجلس الدولة بصفة خاصة بإقصاء النساء من التعيين في هيئتهم القضائية يمكننا فقط أن نذكر بالمرة الأخيرة التي حاولت فيها السلطة التنفيذية الضغط على المجلس للقبول بعضوية قاضيات فيه.

عقود من طرق الأبواب

كان ذلك قبل 11 عاماً، وحينها قبل المجلس الخاص لمجلس الدولة، وهو يتشكل من رئيس المجلس وعضوية أقدم ستة من نوابه، بالإجماع على قبول تعيين مندوبين مساعدين بمجلس الدولة من متخرجي (ومتخرجات) كلية الحقوق في العام الدراسي المنتهي حينها، وتم بناء على ذلك فتح الباب لتقديم الطلبات، ثم عاد المجلس الخاص للانعقاد ووافق بأغلبية أعضائه على استكمال إجراءات تعيين من تقرر صلاحيتهم من المتقدمين بطلبات الالتحاق بالوظيفة.

لم يقبل قضاة مجلس الدولة هذا الأمر، فانعقدت الجمعية العمومية للمجلس وصوت 334 قاضياً من أصل 380، برفض عمل المرأة قاضية بالمجلس، بل قررت الجمعية العمومية أيضا أنها المختصة بكل ما يتعلق بتكوين المجلس وتنظيمه، وأدى ذلك بالمجلس الخاص للانصياع للجمعية العامة فصوت بالأغلبية في اجتماعه التالي ضد تعيين المرأة، وقرر وقف إجراءات التعيين التي كانت قد بدأت بالفعل.

وحده رئيس المجلس حينها، المستشار محمد الحسيني، أصر على استكمال إجراءات التعيين، ولكن النتيجة كانت أن انعقدت الجمعية العمومية لقضاة المجلس مرة أخرى، وحضرها 319 مستشاراً، ليس منهم أي من أعضاء المجلس الخاص.

 أصدرت الجمعية قراراً بإرجاء إجراءات التعيين وأعلنت أنها في حالة انعقاد دائم لحين تنفيذ قراراتها. على جانب آخر، حاولت السلطة التنفيذية الالتفاف حول الجمعية العامة لقضاة مجلس الدولة من خلال استصدار تفسير من المحكمة الدستورية لنصين من قانون مجلس الدولة، يقر صراحة بجواز تعيين المرأة فيه، وبالفعل أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً بهذا المعنى، ومع ذلك لم يتغير موقف قضاة مجلس الدولة واعتبروا الحكم تدخلاً في شؤون المجلس وانتقاصاً من استقلاله. وبناء عليه استمر تجميد تعيين قاضيات في مجلس الدولة 11عاماً أخرى.

إقصاء النساء جزء من غياب استقلال القضاء

ما تنبغي ملاحظته هنا هو اضطراب مفهوم استقلال القضاء عند استخدامه لحماية إصرار القضاة (الرجال) على إقصاء النساء وعدم السماح لهن بالالتحاق بإحدى وظائف الدولة وذلك بالمخالفة للدستور وروح القانون المنظم لشؤون هيئتهم القضائية. فاستقلال القضاء يختص بالأساس باستقلال أحكام القضاة وتنزيهها عن الرضوخ لأي ضغوط أو إملاءات أو إغراءات.

سخط القضاة من تعيين قاضيات

في وجه ذلك كله، لا يزال غالبية القضاة يعبرون عن سخطهم من قرار تعيين المرأة قاضية، وفي حين أن هذا لن يحول دون تعيين الدفعة المقبلة في تشرين الأول المقبل، فلا يزال بالإمكان تصور أن يؤدي إلى تجميد تعيين المرأة في دفعات مقبلة.

كما أنه ستبقى هناك  مساحات للصراع حول أعداد النساء اللاتي سيقبل تعيينهن، وحول المساواة بالرجال في التوزيع على المحاكم المختلفة. فالقاضيات الحاليات بالفعل معظمهن يعملن بمحاكم الأسرة والمحكمة الاقتصادية، من دون المحاكم الجنائية.

تظل هناك عشرات الفرص لوضع العراقيل وزرع العقبات في طريق مساواة القاضيات بالقضاة في مصر. في نهاية المطاف، قد برهن القضاء المصري عبر تاريخه، قبل ثورة يوليو، وبعدها، في ذروة فترات النهضة والتطوير، وفي قاع فترات التراجع والانحطاط، وكذلك قبل ما يسمى بالصحوة الإسلامية وبعدها أيضاً، على قدر استثنائي من الثبات على موقفه المعادي بعمق لحق المرأة في العمل كقاضية مساواة بالرجل.

لا يمكننا أن نعزو هذا الموقف إلى واقع اجتماعي قد تغير ذهاباً وإياباً، أو لتقاليد وأعراف عامة اختلفت من عصر إلى آخر، وإنما يمكن فقط أن نعزوه إلى ثقافة مؤسسية خاصة بالقضاء المصري تستعصي على مواكبة أي تغيير مجتمعي.

 وفي حين أن الموقف من تعيين المرأة بالهيئات القضائية هو الوجه الأبرز لهذه الثقافة المؤسسية، فلا شك أن لها أوجهاً أخرى، ومن ثم فليس لأجل أن تنال نساء مصر حقهن بالعمل قاضيات فقط ينبغي أن نطالب اليوم بأن يعيد قضاة مصر النظر في هذه الثقافة السائدة بينهم والتي تتذرع بالدين أحياناً وبالتقاليد والأعراف أحياناً أخرى.

تحدي استكمال استحقاقات مساواة المرأة بالرجل في مجال العمل في القضاء لا يزال قائماً،  لكن يبقى التحدي بدخول دفعة وراء أخرى من نساء مصر إلى أروقة القضاء المصري وما اذا سيكون بإمكانهن أن يمهدن السبل أمام المزيد من بنات جنسهن وأن يغيرن مع الوقت وجه القضاء المصري، وربما يساهمن في تغيير وجه المجتمع المصري كله.

إقرأوا أيضاً: