fbpx

تونس: أي مستقبل ينتظر “حركة النهضة” بعد 25 تموز؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بات من الواضح أن “حركة النهضة” تعيش حالة تخبط عميق، فلا هي قادرة على فتح قنوات تواصل مع رئيس الجمهورية وفك عزلتها السياسية ولا هي قادرة على إعادة ترتيب بيتها الداخلي، الذي خربته الصراعات والانقسامات، نتيجة تجربة الحكم الفاشلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد زلزال 25 تموز/ يوليو في تونس، توجهت الأنظار إلى “حركة النهضة”، لأن مستقبلها السياسي أصبح على المحك. فالحركة التي تصدرت المشهد السياسي التونسي لمدة عشر سنوات، تتهددها اليوم الانقسامات الداخلية والاستقالات المتواترة، في حين يحاول رئيسها، الذي فقد الكثير من شعبيته داخلها، إنقاذ ما تبقى. يحصل ذلك وسط وضع ضبابي وإصرار من رئيس الجمهورية قيس سعيد على مقاطعة منظومة الحكم السابقة التي كانت تشرف عليها “حركة النهضة”. فأي مستقبل ينتظرها؟

مشهد راشد الغنوشي رئيس البرلمان واقفاً أمام باب مجلس نواب الشعب الذي أُوصد أمامه في ليل 25 تموز، يختزل حالة الضعف والهوان التي وصلت إليها الحركة. كان رئيس “حركة النهضة” يعتقد أنه بمجرد نزوله إلى الشارع وتوجهه إلى البرلمان سيحظى بمساندة شعبية كبيرة من أنصاره الذين دعاهم إلى الالتحاق به في محاولة لاستعادة مشهد مألوف، مشهد “رابعة” في مصر. ولكن الواقع خيّب آماله، ولم يهب لنصرة الحركة سوى بعض المقربين من رئيسها. وعبثاً حاولت قناة “الجزيرة” القطرية مساندته، عبر نقل الحدث مباشرة وبث كلمة الغنوشي ومن معه، فالهبة الشعبية لم تأتِ.

كانت هذه الحادثة صدمة حقيقية لـ”حركة النهضة”، أقوى حتى من صدمة الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد. فكيف لحركة كانت تحظى بالأغلبية عام 2011 وتربعت على عرش تونس عشريةً كاملة، أن تجد نفسها  فجأة مكروهة ومنبوذة شعبياً حتى من أقرب مسانديها؟

احتاج الأمر وقتاً حتى تعي قيادتها هول ما حصل وهو ما يفسر التضارب في التصريحات بين من اعتبر أن الإجراءات الرئاسية هي انقلاب على الديموقراطية، ومن ذهب إلى أن الحركة مسؤولة عن تعفن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، والذي أدى إلى انتفاضة شعبية يوم 25 تموز في أنحاء عدة من البلاد وتهشيم بعض مقرات “النهضة”.

أياً كان ما سيحصل في تونس، فإن “النهضة” ما قبل 25 تموز لن تكون كما بعده.

لكن التضارب في تقدير ما حصل، تطور ليصبح تياراً من المعارضين لسياسة الحركة وأداء قيادتها. فبعد أقل من أسبوع على القرارات الرئاسية، نشر أكثر من 130 شاباً من “حركة النهضة”، بينهم خمسة نواب بياناً أطلقوا عليه عنوان “تصحيح المسار”، وطالبوا فيه الغنوشي “بتحمّل المسؤولية كاملة عن التقصير في تحقيق مطالب الشّعب التونسي، وتفهم حالة الاحتقان والغليان”. واعتبروا أن “خيارات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطريقة إدارته التحالفات والأزمات السياسيّة لم تكن ناجعة في تلبية حاجيات المواطن، الذي طحنته ماكينة غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائيّة، إضافة إلى البطالة والجائحة الصحية”. توجيه المسؤولية بشكل صريح لقيادة الحركة أي للغنوشي شخصياً، اعتبره علية العلاني، الخبير في الجماعات الإسلامية، “سابقة في حد ذاتها في حركات الإسلام السياسي التي تتميز عادة بالانضباط والطاعة التامة لرئيس الحركة”. وهو ما يؤكد خطورة الانقسامات داخل جسم النهضة. وهي انقسامات وإن لم تكن جديدة، فقد أصبحت بعد 25 تموز جدية بما يكفي لتثير شكوكاً حول مستقبل “النهضة”.

الموجة الثانية من الاحتجاجات الداخلية، جاءت على إثر الاجتماع الاستثنائي لمجلس الشورى في 4 آب/ أغسطس. ففيما كان جزء من الحركة يتوقع أن يتنحى رئيسها عن القيادة و”يُفوّض صلاحياته لقيادة جديدة تحظى بقبول الرأي العام”، كما صرح القيادي في “النهضة” والوزير السابق محمد بن سالم، انتهى الاجتماع من دون أن يحصل تغيير جذري، لا بل قامت الحركة بنشر بيان هزيل حمّلت فيه مسؤولية تردي الوضع السياسي والاقتصادي إلى “الطبقة السياسية برمتها، كل من موقعه وبحسب حجم مشاركته في المشهد السياسي”. هذا الموقف أدى إلى حالة من الإحباط عند جزء من المنتسبين إلى الحركة، تُرجم عبر انسحاب بعض القيادات من اجتماع مجلس الشورى، كالنائبات جميلة الكسيكسي ومنية ابراهيم ويمينة الزغلامي التي نددت في تدوينة نشرتها على حسابها “بسياسة الهروب إلى الأمام وعدم الانتباه إلى خطورة اللحظة التي تمر بها الحركة والبلاد”.  

في الأثناء، ومنذ 25 تموز، تزايدت الاستقالات في صفوف الحركة تعبيراً عن رفض نهجها في مواجهة الأزمة وبقاء قيادتها الحالية، على رغم المطالبات المتكررة بتنحيها، وكان أهمها استقالة المكلف بالإعلام فيها خليل البرعومي الذي اعتبر في تصريح إلى إحدى الإذاعات الخاصة أن “الغنوشي أخطأ وأنه حان وقت التغيير”.  

أمام الدعوات المتكررة المطالبة برحيله، بادر راشد الغنوسي بمناورة جديدة للمحافظة على سلطة القرار في يده، إذ أخذ قراراً مفاجئاً بحل المكتب التنفيذي للحركة ليلة انتهاء المدة الأولى التي حددها الرئيس قيس سعيد للإجراءات الاستثنائية (يوم 24 آب). وفي حين برره مناصروه بأنه إجراء ضروري، لأن المكتب التنفيذي بتركيبته السابقة المكونة من 40 شخصاً يحول دون “تحسين القدرة على اتخاذ القرار وزيادة نجاعته في هذه المرحلة الدقيقة، وبالتالي وجب تقليصه إلى 10 أو 12 شخصاً”، كما أوضح لـ”درج” القيادي في الحركة وعضو المكتب التنفيذي المنحل، العجمي الوريمي. فإن هناك من يرى أن الغنوشي “يعمل على الإمساك بالقرار الأساسي داخل الحركة وحماية الدائرة الضيقة التابعة له”، وفق الباحث علية العلاني.

إقرأوا أيضاً:

شعبية في أدنى مستوياتها

بات من الواضح أن “حركة النهضة” تعيش حالة تخبط عميق، فلا هي قادرة على فتح قنوات تواصل مع رئيس الجمهورية وفك عزلتها السياسية ولا هي قادرة على إعادة ترتيب بيتها الداخلي، الذي خربته الصراعات والانقسامات، نتيجة تجربة الحكم الفاشلة. فالحركة اليوم أمام امتحان عسير هو امتحان البقاء، أمام شعبية جماهيرية تقلصت إلى أدنى مستوياتها، فبحسب آخر استطلاع للرأي نشرته “مؤسسة ايمرود” في الأول من أيلول/ سبتمبر حول نيات التصويت للانتخابات التشريعية المقبلة، تراجعت نسبة المصوتين المحتملين لـ”حركة النهضة” من 18 إلى 15 في المئة، لتحتل بذلك المرتبة الرابعة بعد “الحزب الدستوري الحر” وحزب قيس سعيد إن وُجد. وكانت “النهضة” حققت عام 2011 فوزاً ساحقاً بـ89 مقعداً في البرلمان (من مجموع 217 مقعداً) بقرابة مليون و500 ناخب! شعبية لم تنفك تفقدها تدريجاً منذ ذلك التاريخ، بسبب طريقة إدارتها الحكم وتحالفاتها السياسية، إذ سجلت تراجعاً في انتخابات 2019 ليصل عدد المقاعد التي حصلت عليها إلى 53 مقعداً بقرابة 600 ألف ناخب، أي بخسارة ثلث ناخبيها.

يرى خالد عبيد، أستاذ التاريخ السياسي المعاصر أن “حركة النهضة نجحت عام 2011 في امتلاك أفئدة التونسيين وتعاطفهم بفضل لعبها على إحساسهم الديني وإتقان دور الضحية ولعبة المظلومية، ولكن بعد عشرية من الحكم، استفاق التونسيون من هذه الأوهام وبالتالي فقدت شعبيتها بشكل كبير”، مضيفاً “بالنسبة إلي، النهضة انتهت وستبقى جسداً بلا روح”.

على عكسه، يعتبر العجمي الوريمي، القيادي في الحركة، أن “النهضة” ستحافظ على حضورها وثقلها في المشهد السياسي، وإن كانت تقوم حالياً بمراجعات لأخطائها، وذلك “لأن وجودها مهم لاستقرار البلاد”. ولكنه يؤكد أن الحركة حريصة على ألا تكون في الواجهة، كما أنها مستعدة لتقديم تنازلات ومنها ألا تكون في الحكومة المقبلة. كما أنها مستعدة لدعم أي إصلاحات قد يقوم بها الرئيس سعيد على مستوى تغيير النظام الانتخابي والنظام السياسي وتنقيح الدستور. “المهم ألا يتم الخروج عن الإطار الديموقراطي”. 

تستميت “النهضة” لتبقى في المشهد السياسي وهي مستعدة لتحجيم وجودها قدر الإمكان، أو أن تكون خارج دائرة الحكم، أي في المعارضة مثلاً.

تجربة الحكم الفاشلة أغرقت “النهضة”

يرى بعض المقربين من الحركة أن الوضع الحالي هو مجرد أزمة جديدة تمر بها “النهضة” التي عاشت على مدى أربعين عاماً أزمات كثيرة وصدامات مع النظام منذ فترة الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ونجحت في كل مرة في تجاوزها، على رغم الاعتقالات والسجون والتضحيات. ولكن بحسب الباحث في الجماعات الإسلامية، علية العلاني فإن الوضع مختلف هذه المرة، “ففي السابق، كانت الحركة تلعب على وتر المظلومية ودور الضحية في وجه الاستبداد، أما الآن فلم تعد قادرة على فعل ذلك، لأنها وقعت في فخ السلطة ولم تكن مستعدة لها. لقد كانت تتصور أنها بتحالفها مع عناصر النظام القديم وعناصر المعارضة الجديدة ستصبح الركيزة الأساسية للمشهد السياسي، وقد استعملت لتحقيق ذلك الأموال والإغراءات، كما زرعت أنصارها في مفاصل الدولة وفي الإدارات المركزية والجهوية وفي القضاء، لكنها لم تنجح، لعدم امتلاكها مشروعاً أو رؤية لتسيير البلاد”.

تجربة الحكم غذت الانقسامات داخلها على مستويات عدة: أولاً، على المستوى العقائدي الإيديولوجي، فشق المحافظين داخلها رأى أنها تخلت تدريجاً عن مرجعيتها الإسلامية والكثير من مبادئها لفائدة براغماتية السلطة حتى تستطيع التعامل مع الواقع التونسي والتأقلم مع متغيراته. ثانياً، على مستوى الصراع بين الأجيال، فقد ظهر خلاف بين جيل التسعينات الذي عاش تجربة سجون بن علي، وجيل الشباب الحالي الذي لم يعرف في معظمه هذه التجربة والذي يطمح إلى الانتماء إلى حزب حديث وقوي، فيه مؤسسات ديموقراطية وتداول سلطة داخل هياكله. ثالثاً، على مستوى إدارة الحكم وتوزيع المكاسب، فقد أدى تمركز سلطة القرار عند الغنوسي وثلة من المقربين له، وتقاسم الغنائم والمناصب في ما بينهم على حساب البقية، إلى إذكاء الخلافات الداخلية والصراعات.

كل هذا جعل اللحمة داخل الحركة تتفتت تدريجاً، وبدأت الانقسامات تطفو على السطح بخاصة خلال السنتين الأخيرتين مع طرح مسألة بقاء راشد الغنوشي من عدمه على رأس الحركة، بعد المؤتمر المنتظر الذي تم تأجيله من عام 2020 إلى أواخر 2021 بسبب “كورونا”. فالفصل 31 من القانون الأساسي لـ”الحركة”، يمنع البقاء في منصب الرئيس لأكثر من عهدتين متتاليتين. وكان حصل جدال حول تغيير القانون لتمكين الغنوشي من الترشح مجدّداً، ما تسبّب في خلافات كبيرة واستقالات داخل النهضة، وتشكلت مجموعة من 100 شخصية من أبناء النهضة، وجّهت رسائل داخلية تدعو فيها “إلى احترام القانون الأساسي للحركة والامتناع عن تغييره بأي أسلوب كان”.

نحو حزب جديد؟

هذا الجدل ألقى بظلاله من جديد على مستقبل الحركة وبخاصة الدور الذي سيلعبه راشد الغنوشي، وإن بات مستبعداً أن يترشح لعهدة ثالثة خلال المؤتمر المقبل. ولكن الثابت هو أن “مجموعة المائة” تدعمت بمعارضين آخرين من بعد 25 تموز، وباتت الحركة على حافة الانفجار، بل أصبح الحديث علناً عن تكوين حزب جديد، يخرج من رحمها. وهو ما دعا إليه بوضوح القيادي محمد بن سالم حين صرح في 19 آب بأنه على “الغنوشي تفويض القيادة للشباب داخل الحزب للمساهمة في حل مشكلات البلاد، وفي حال عدم الرجوع خطوة إلى الوراء سنضطر إلى إطلاق حزب جديد”. 

يحاول معارضو هذا التيار التقليل من أهمية هذا الاحتمال، وإن كانوا لا ينفونه. فبحسب العجمي الوريمي، “لا تقوم الانقسامات داخل الحركة على أسس أيديولوجية، إنما حول أمور تنظيمية، بالتالي فيمكن أن يخرج فريق عن الحركة، لتأسيس النهضة 2 أو النهضة 3، ولكنه سيعود عاجلاً أم آجلاً إلى رحم الحزب، كما حصل مع قياديين سابقين حاولوا تأسيس أحزاب مستقلة ثم عادوا إلى النهضة”. 

لكن يرى مراقبون أن إمكانية التقسيم واردة جداً، إلا أنها قد تكون مناورة جديدة من الحركة لامتصاص الغضب الشعبي وتذليل الصعوبات أمام بدء حوار مع الرئيس قيس سعيد الذي يرفض أي تواصل مع “النهضة” وبخاصة مع قيادتها الحالية. 

انقطاع العلاقة مع الرئيس سعيد وصراع البقاء

إلى جانب امتحان الصمود داخلياً، تواجه “النهضة” تحدي البقاء في الساحة السياسية، بخاصة أمام إصرار رئيس الجمهورية على القطع تماماً مع منظومة الحكم ما قبل 25 تموز. وهذا يعني حل البرلمان بشكل نهائي، وقد يذهب الأمر إلى إلغاء العمل بدستور 2014 المحسوب على “حركة النهضة” لأنها ساهمت فيه. كما أن شبح المحاكمات السياسية باسم “مقاومة الفساد” ليس ببعيد، وقد تذهب ضحيته قيادات من “النهضة” وحتى رئيسها. في الأثناء، وحتى تتضح الرؤية حول مستقبل البلاد ما بعد القرارات الاستثنائية، تسعى “النهضة” بكل قواها إلى إيجاد قنوات تواصل مع قيس سعيد. وفي هذا الصدد، تعمل لجنة الإصلاحات التي أحدثت على إثر اجتماع مجلس الشورى على الاتصال بمحيط سعيّد لإيجاد أرضية مشتركة للعمل معه. “نحن ندعم جهوده في مقاومة الفساد ومستعدون للتعاون معه في هذا المجال، ونحن نشتغل على التقاطعات معه ولكنه لا يستجيب لمحاولاتنا”، يفسر العجمي الوريمي، “لذلك نفكّر بتقديم طلب رسمي لمقابلته”.

تستميت “النهضة” لتبقى في المشهد السياسي وهي مستعدة لتحجيم وجودها قدر الإمكان، أو أن تكون خارج دائرة الحكم، أي في المعارضة مثلاً. بقي أن مستقبلها مرهون اليوم بالتطورات المقبلة، “كإمكانية حصول محاكمات لقياداتها أو إقرار الرئيس سعيد قوانين جديدة تُغيّر النظام الانتخابي وأيضاً النظام السياسي، وهو ما قد لا يستجيب لاستراتيجيتها”، كما يوضح العلاني. أما في ما يخص مستقبل راشد الغنوشي، فإن هذا الأخير يبحث حالياً عن “حل أو وساطة بتأمين خروج مشرّف من البرلمان ومن الحركة”، يضيف الباحث.  

أياً كان ما سيحصل في تونس، فإن “النهضة” ما قبل 25 تموز لن تكون كما بعده. فإما أن تنتهز هذه الفرصة للقيام بمراجعات عميقة لأفكارها وسياساتها وتعيد ترتيب بيتها الداخلي، مفسحة المجال للطاقات الشابة، وتشتغل على مشروع وطني للبلاد يأخذ في الاعتبار البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أو أنها تمضي في إعلان موتها بيدها ولن تقوم لها بعد ذلك قائمة. 

إقرأوا أيضاً: