fbpx

من السجن إلى وسط القاهرة…
يوم تسكّعت على حافتي الجمال والعنف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كل ليلة أخرج من غرفتي المستأجرة في شارع عبدالخالق ثروت، وأبدأ طقسي المحبب في مراقبة المحلات التجارية والأبنية الكولونيالية. أصبحت المدينة صديقتي الدائمة في التسكع ومراقبة الأبنية والغرباء…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 كنت مرتبكاً بشكل دائم، أضل طريقي في شوارع سبق أن اجتزتها، وأتوه في المناطق والأحياء القريبة، وكان لديّ شعور دائم تجاه وضعي الجديد في هذا العالم، بأنني أشبه أولئك الأبطال في روايات الأقزام عندما يصلون إلى بلاد العمالقة… خرجت إلى العالم  بعد خمس سنوات في السجن، فاقداً التكيّف مع الأمكنة والأشخاص. كيف سأتكيف مع هذه الأماكن الجديدة، بعاداتها المختلفة وأصحابها المنطلقين بخفة في حياتهم اليومية؟ 

تقول مليكة أوفقير التي سُجنت 20 عاماً في المغرب، في كتابها “السجينة” لتصف هذا الإحساس، بعد خروجها إلى الحرية، “عندما نجحت في تخطي الحدود الجغرافية الضيقة التي كنت أتقوقع في داخلها، ورحت أزور أحياء أخرى من المدينة، وأستقل بمفردي سيارة الأجرة أو القطار، أو أسير على قدميّ في بعض الأماكن المجهولة… لم أتخلص من شعور الرعب والهلع الذي يعصف بي فجأة وأنا في وسط الرحلة، فألهث وأتصبب عرقاً وأفقد القدرة على تحديد الاتجاه المطلوب”. 

يحصل لي دائماً أن أرتعب من الحشد، وأتوه عن السكة التي يفترض أنني أحفظها عن ظهر قلب، لم أعد أستطيع الاستدلال على الأمكنة والاتجاهات. عليّ أن أتعلم من جديد، كيف أمشي، وأنام، وأتناول الطعام، وأتحدث، وأعبر عن أفكاري، وحقاً، إن السجن يسقط لديك الكثير من المهارات الاجتماعية التي اكتسبتها في حياتك من قبله، ويضعك في مرحلة تكون فيها مدركاً كل الأشياء من حولك، ولكنك ضائع ومشوش ومغترب، ويلازمك شعور داخلي عميق بعجزك عن فعل أبسط الأشياء.

في ظل هذا الارتباك والتشوش والاغتراب، انتقلت من بيت أهلي في مدينة المنصورة إلى القاهرة، لألتحق بالجامعة وأكمل دراساتي العليا في الفلسفة. وهناك كانت إعادة الاندماج وتكوين الصداقات مع الناس والأمكنة أكثر صعوبة منها، في وسط مدينتي وأهلي.

تمثلت لي عملية الانتقال من السجن إلى القاهرة بما أستطيع تشبيهه بـ”الخروج من فوهة زجاجة إلى بحر شاسع”، حاولت كثيراً توجيه دفتي نحو شواطئ مستقرة، لأغرز فيها حياة كاملة وهادئة، من دون أن أتخبّط في أمواج القاهرة المتلاطمة.

 قدر لي أن أسكن في إحدى الغرف في مبنى كولونيالي من مباني وسط البلد. فبدت الهوة شاسعة بين زنزانة عنبر وادي النطرون في الصحراء وهذه الغرفة الفخمة وسط المباني العتيقة التي تحمل مجداً كولونيالياً قديم.

 في البداية، كنت أشعر بالاغتراب، لما تمثل لي من إدراك للتطورات والأحداث والتغيرات الكثيرة في معالم الأماكن والطرق. لكنني حاولت جاهداً اللحاق بكل ما فاتني. انطلقت في المجتمع كأي شخص عادي. وبدأت أنسج شبكتي الخاصة، وأتعرف إلى الناس والأماكن. 

وسط البلد، المدينة فكرة، قبل أن تكون واقعاً.

وسط البلد أو “الحي الإسماعيلي”، نسبة إلى الخديوي إسماعيل الذي استلهم نموذجاً حضارياً من زيارته باريس في ستينات القرن التاسع عشر، وأراد تحويل هذه البقعة من الأرض في غرب المدينة إلى قطعة من أوروبا، فكان “وسط البلد”، كنموذج لما حققته مصر من تقدم على طريق الحضارة. 

وهذه المدينة يقابلها عالم آخر بُنيت بمحاذاته، ألا وهو مدينة “القاهرة القديمة” المدينة التي كانت تمثل قاهرة القرون الوسطى، أو “القاهرة الإسلامية” التي ارتبطت بفضل التصور الاستعماري بالتخلف والركود اللذين روج لهما المستعمر.

في الفن المعماري الحداثي، المدينة ترسم كفكرة في الخيال ثم تحول إلى واقع. فهذه شوارع القاهرة القديمة تلتف حول نفسها، وتلتوي بعشوائية حول البيوت، متسعة حيناً وضيقة أحياناً. ما يعني أن بناء بيوت هذه المنطقة بصورة متناثرة حددت هذا الشكل الالتوائي المتعرج للشوارع. بينما على العكس في حالة وسط البلد، تبدو الشوارع هي التي قد رسمت سلفاً لتحدد شكل البيوت والمدينة.

إن الطابع المعماري والحضري لمدينة وسط البلد ولا سيما تاريخها الكولونيالي، هو من أهم عوامل اكتسابها طابعاً سياسياً واجتماعياً وسياسياً فريداً، وسط البلد هو بؤرة ثورة 25 يناير في مصر، وساحة التقاء النشطاء السياسين والفنانين والصحافيين والكُتّاب وراسمي الغرافيتي.

 تقول الباحثة الأنثروبولوجية، لوسي ريزوفا: إن وسط البلد مركز لاجتماع النشطاء والفنانين، وهذه ليست بالظاهرة الجديدة. فتاريخ وسط البلد كمركز للبوهيميَّة القاهرية والمعارضة السياسية ممتد لعقود قديمة. الكثير من مطاعمها وباراتها ومقاهيها، مثل النادي اليوناني، ومقهى ريش، وأستوريل، والجريون، وأوديون، والحرية، والبستان، والندوة الثقافية وسوق الحميدية، وغيرها، يمثل المؤسسات الثقافية الفاعلة، التي رعتها أجيال من أدباء قاهريين وفنانين ونشطاء. المساحات الفنية تتكاثر، وكذلك المهرجانات الثقافية كبيرة وصغيرة، إلا أن جمهورها لا يتداخل دائماً. ليس من مشهد ثقافي واحد في وسط المدينة، تماماً كما أن المقاهي والبارات لا تمثل ثقافة واحدة للمعارضة، بل الكثير من الثقافات. عندما يتعلق الأمر بوسط القاهرة، فالكل أكبر بكثير من مجموع أجزائها.

وسط البلد مدينة منتبذة، بحسب مفهوم “فوكو” عن الانتباذ، وبحسب تقديم الباحثة الأنثروبولوجية لوسي ريزوفا، التي كتبت بحثاً طويلاً عن هذه المدينة؛ بعنوان “تمشية في أرض العدو”، تقول: المكان المنتبذ هو مكان “في الوسط “، مساحة للآخر، جسديًاً وعقلياً في وقت واحد. له الكثير من الطبقات المتبارية في المعنى، ويمكن فهمها فقط في ما يتعلق بغيرها من الأماكن الأخرى خارجها، إلى جانب المساحات المعيارية والأدوار الاجتماعية كما هي موجودة في مكان آخر. 

إقرأوا أيضاً:

أنا أستخدم مفهوم الانتباذ بالتبادل مع مفهوم الوقوف على العتبة، وهو مكان في الوسط (أو زمن، أو سلوك) كما عرّفه علماء الأنثربولوجيا. يشترك الانتباذ مع الوقوف على العتبة في بعض الخصائص المعينة: النفاذ الاجتماعي، والحدود المرنة بين الطبقات والنوع، والصفات الاحتفالية أو الكرنفالية. تظهر هذه الخصائص للبعض على أنها خطر وتلوث أو “مسألة خارج المكان”، وخصوصاً عندما يُنظر إليها من الخارج، بينما تستحضر  لدى البعض الآخر المزيد من مشاعر الحرية والتحرر من الأدوار  الاجتماعية المعيارية. أزعم أن وسط القاهرة واقف على العتبة، أو أنه مكان منتبذ بامتياز.

“وسط البلد” ليس هنا ولا هناك، بل هو مدينة في الوسط، تحكمها قواعد خاصة بها، كونها مدينة لا يقطنها سكان أصليون ليحددوا لها قواعد واضحة مثل كل المجتمعات في المدن المختلفة، بل معظم قاطنيها من مناطق وطبقات وثقافات مختلفة، فهي تستقبل السياسيين والفنانين والأجانب كما تستقبل الغرباء والمهمشين. إنها مدينة منتبذة يسهل النفاذ إليها اجتماعياً. وتحرر فيها الأدوار الاجتماعية المعيارية من نفسها.

هذه الطبيعة الخاصة بوسط البلد تجعل مجتمعها قابلاً لرسم أدوار غير حقيقية، يمكن أن يلعبها المجهولون الذين أتوا من محافظات وأقاليم مختلفة. بالتقنّع، أو بتلبّس شخصيات ليست شخصياتهم قبل وفودهم إلى هذه المدينة كغرباء. وهذه الطبيعة أيضاً تعزز إمكانية أن تصبح وسط البلد مسرحاً لأداء الأدوار الاجتماعية.

إن الطابع المعماري والحضري لمدينة وسط البلد ولا سيما تاريخها الكولونيالي، هو من أهم عوامل اكتسابها طابعاً سياسياً واجتماعياً وسياسياً فريداً، وسط البلد هو بؤرة ثورة 25 يناير في مصر، وساحة التقاء النشطاء السياسين والفنانين والصحافيين والكُتّاب وراسمي الغرافيتي.

الجمال والعنف

كل ليلة أخرج من غرفتي المستأجرة في شارع عبدالخالق ثروت، وأبدأ طقسي المحبب في مراقبة المحلات التجارية والأبنية الكولونيالية. أصبحت المدينة صديقتي الدائمة في التسكع ومراقبة الأبنية والغرباء، والذهاب إلى سينما زاوية في شارع عماد الدين. كنت دائم الحرص على ألا تفوتني الأفلام الجديدة والممتعة، وكنت دائماً أقف في شارع عماد الدين مولياً ظهري للسينما، أدخن سيجارتي في انتظار بدء عرض الفيلم.

وكل مرة، أنظر إلى المبنيين العتيقين المتجانسين كتوأمين في مقابل السينما، أتعجب من تماثلهما الهندسي، وأتساءل، لماذا تظهر على أحدهما آثار حريق ولا تظهر على الأخر؟ يتمثل في ذهني حريق القاهرة عام 1952، هل نجا المبنى الأيسر من الحريق بالفعل؟ أم أعيد ترميمه؟ ولماذا لم يتم ترميم المبنى الأيمن؟ أياً يكن، يبقى المبنيان في حالة تطابق هندسي فريد يظهر النمط المعماري والحداثي للمدينة.

أدخل إلى السينما لأشاهد العرض، إذا كانت هناك تجربة جميلة فهي أن تشاهد فيلماً بمفردك، وإذا كان هناك تجربة أجمل فهي أن تشاهد فيلماً بصحبة رفاقك، والأجمل من كل هذا أن تشاهده في سينما “زاوية”.

كنت أتردد دائماً على زاوية، أتخذ مقعداً وسط الجالسين، وأفكّر، هؤلاء الناس، ما هو الشيء المشترك بيني وبينهم في هذه اللحظة؟ ما الذي يجعلني أشعر تجاههم بالانتماء؟ إن المساحة المشتركة التي نجلس في إضاءتها الخافتة معاً، لنتعرض إلى المؤثر ذاته، وأيضاً، المساحة الداخلية لأذهاننا، التي نحضّرها من دون أن نتعارف، لاستقبال شيء مشترك، اتفقنا على معرفته سوياً. إنها مساحة الاستيعاب المشتركة بين العقل وقاعة السينما، وربما أيضاً حبنا المشترك للزاوية نفسها، كل هذه الأشياء تجعلني أشعر بعلاقة وثيقة تربطني خفية بهؤلاء الناس.

بعد انتهاء الفيلم، نخرج إلى شارع عماد الدين، ننتشر بين الشوارع. أتجه جنوباً صوب شارع رمسيس، أمشي حتى ميدان عبد المنعم رياض، بين هيلتون رمسيس وميدان التحرير، أتوقف. أدرك شيئاً غريباً فجأة. كم أحب هذا الميدان وذلك المبنى! ولكن لماذا تقف سيارات الشرطة هناك بشكل دائم؟ ما الذي يحرسه الواقفون في ميدان التحرير إلى الآن؟

 إن ميدان التحرير منذ ثورة يناير حتى الآن، أي بعد أكثر من عشر سنوات، لم يخل من الوجود العسكري لسيارات الشرطة المتأهبة على الدوام، لردع أي احتمال لثورة محتملة أو شغب.

 تتجلى في ذهني، صورة تحمل تناظراً معكوساً بين هيلتون رمسيس وميدان التحرير، رمزية العنف القائمة على هيئتها البوليسية في الميدان، تمثل لي ظلاً يعكس بُعداً من القسوة المعسكرة داخل الجمال- المتمثل في ميدان التحرير-. يقابلها الجمال القائم على العنف في مبنى هيلتون رمسيس، المنتمي إلى الطراز المعماري الوحشي/العنيف في فن المعمار “البروتاليزم” الذي يستخدم الصخور الخرسانية في عملية البناء لتكوين شيء جميل من العنف.

وهكذا كنت أدور في مدينة يختلط فيها التاريخ بالحاضر، كما تختلط فيها أنواع الناس القادمين من كل وصوب، وكذلك، يتداخل القمع بالثورة، والجمال بالعنف.

إقرأوا أيضاً: