fbpx

الغزو الروسي لأوكرانيا: تقدير موقف..!!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتصدّر الغزو الروسي لأوكرانيا كل قائمة محتملة للأسباب التي أدت إلى نهاية فصل، وبداية فصل جديد في تاريخ أوروبا والعالم، بصرف النظر عن المسوّغات والدوافع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تبلور عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية على مدار سنوات قليلة أعقبت هزيمة ألمانيا النازية. ورغم أن مؤتمر يالطا (شباط 1945) حين تقاسم المنتصرون مناطق النفوذ، قد سبق الإعلان الرسمي عن نهاية الحرب (أيلول 1945) إلا أن ما أعقبه من تطوّرات وسياسات لم يحد بصورة راديكالية عمّا تجلى فيه من تسويات عامة، ومساومات، وخطوط تماس جديدة.

ولا أعتقد أن ثمة مجازفة في القول إن هذا كله قد انتهى، بعد سبعة وسبعين عاماً، في الفترة الواقعة من بين نهاية شباط، وأوائل آذار 2022، بمعنى أن مرحلة تاريخية، يمكن تعريفها بقدر من الطمأنينة، قد انتهت، وأن محاولة تعريف المرحلة الجديدة تفتقر إلى الحد الأدنى من الطمأنينة. 

ولا بأس، في هذا السياق، من الاستعانة بعبارة لريجيس دوبريه الماركسي الفرنسي، الذي اقترن اسمه في وقت ما بتشي غيفارا، واليسار الجديد. تقول العبارة: “إن التاريخ يدخل الفصل الجديد مقنّعاً بقناع الفصل السابق”، لذا يعتقد الناس أن ما يرونه يتمثل في أحداث الفصل القديم نفسه، بينما تكون أشياء جديدة قد وقعت بالفعل.

لذا، يتصدّر الغزو الروسي لأوكرانيا كل قائمة محتملة للأسباب التي أدت إلى نهاية فصل، وبداية فصل جديد في تاريخ أوروبا والعالم، بصرف النظر عن المسوّغات والدوافع. وأود الإشارة، هنا، إلى أمرين أولهما “نظري” إلى حد ما، والثاني قراءة تحوّلات على الأرض.

1-وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأوّل، فإن مقارنة سريعة بين العالم العربي (أعني الحواضر الشامية والمصرية والعراقية والمغاربية) وعالم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تشير إلى التطوّر الكارثي للأوّل، والنجاح الاستثنائي للثاني، بكل المعاني الثقافية والإنسانية والسياسية. 

هذا نقاش طويل وعريض، بطبيعة الحال، ولكن ما غاب عنه، وما قد يتضح مع مرور الأيام، أن مشكلة الأوّل ليست في الجينات، بل في سلسلة متلاحقة من الحروب الخارجية والداخلية، التي لم تنشأ، دائماً، وبالضرورة، نتيجة أنظمة دكتاتورية، وأيديولوجيات دينية صحراوية، وقوميات ريفية وحسب بل ونشأت لأن تضافرها مع عوامل خارجية، قاهرة، حرم بلاداً كثيرة من عوائد السلام، أيضاً. فثورات الربيع العربي لم تفشل إلا بعدما وجدت القوى المحلية للثورة المضادة التحريض والتشجيع من ممولين وداعمين وحلفاء تقليديين في الإقليم والعالم.

سمع أغلب مستهلكي هذا النوع من الأخبار، على الأرجح، عن الجامعة الإيطالية التي شطبت الروائي الروسي، وأحد أبرز الأعلام في تاريخ الرواية، ديستويفسكي، من المنهاج الدراسي. هذه ممارسة اعتباطية وحمقاء، بالتأكيد، ولا تختلف عمّا يقع في العالم العربي من أحداث تدل على حجم ما أصابه من انحطاط.

والواقع، أن هذه الحادثة تدل على أمور كثيرة من بينها ما يتجلى من ردود أفعال أوروبية، عفوية وغاضبة، تضاف إلى مواقف رسمية لا تقل عنها حماسة وبلاغة، احتجاجاً على الغزو الروسي. وفي حال تحوّل هذا كله إلى موضوع للاستثمار، والابتكار، والتنافس من جانب ساسة شعبويين، ومُحرّضين كانوا قبل قليل أشخاصا عاديين، وأصحاب أطوار غريبة أحياناً، صاروا متطوعين ومقاتلين، تكون أوروبا قد اقتربت من حافة الهاوية.

إقرأوا أيضاً:

لا أعتقد أن هذا كله يعني وصول الأوروبيين إلى شيء يماثل الظاهرة الداعشية. فهذا يحتاج دفيئات أيديولوجية وسياسية، تحظى برعاية رسمية وشبه رسمية، ومصادر تمويل رسمية وشبه رسمية، قبل أن يشتد عودها، وتصبح قادرة على تمويل نفسها، ويحتاج، بالقدر نفسه، إلى مجتمعات مرضت وتعفّنت بالمعنى الحضاري والإنساني، حسب شواهد مألوفة في العالم العربي. فالنظام الصدامي، الذي بتر الأيدي، وجدع الأنوف، وسمل الأعين، كان حالة بربرية تماماً في سنواته الأخيرة. وهذه يصدق على الطريقة التي خاض بها النظام السوري حربه على معارضيه السلميين الأوائل، وصبّ بها الزيت على حطب الدواعش. أما بربرية الهوامش الصحراوية فحدّث ولا حرج.

بيد أن هذا كله لا يلغي حقيقة أن فترات الحرب في أوروبا كانت دموية، وأطول من فترات السلام، وأن فيها من الجراحات التاريخية، والضغائن القومية، والذكريات المسمومة، وخطوط التماس الرمزية، والأراضي المتنازع عليها، فعلاً (ليس في أوكرانيا التي قال بوتين إنها ليست دولة أصلاً وحسب، ولكن في أماكن كثيرة أيضاً) ما يكفي لإشعال أكثر من نار في أكثر من مكان، وتقويض عقود من السلام، حتى ما كان منه في زمن الحرب الباردة.

لذا، في حال طالت الحرب، وتعاظمت الخسائر البشرية والمادية، وفقدت الدول المركزية في أوروبا آليات الضبط والسيطرة، واستشرت الفوضى، وتوسّعت ظاهرة المقاومين والمتطوعين، وملحقات أمور كهذه كالدعاية والتحريض، والعمل السري، وسوق تجارة وتهريب السلاح، وتحويل القتال ضد عدو في الخارج إلى جزء من عملية الصراع على السلطة في الداخل، تكون أوروبا قد سقطت في الهاوية. ونرجو ألا يحدث ذلك.

2-  أما الأمر الثاني، أي قراءة تحوّلات على الأرض، تشير إلى نهاية عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، فيتجلى في إعلان المستشار الألماني عن تخصيص ما يزيد على مائة مليار يورو لدعم موازنة الجيش خلال عام واحد. وقد نال إعلان المستشار الكثير من التصفيق وقوفاً من جانب الغالبية العظمى من أعضاء البرلمان.

والمهم أن هذا تحوّل تاريخي، ولم يكن ليحدث دون موافقة الأميركيين، وكبار الشركاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. بعد هزيمة النظام النازي واحتلال ألمانيا، فرض الحلفاء قيوداً على تسلّحها (كذلك على اليابان). وقد استمر هذا الوضع على ما هو عليه، مع تعديلات طفيفة على مدار عقود، ومن الواضح أنه انتهى الآن. وهذا يحتاج، بدوره، صياغة، وربما تأويلات جديدة، لمواد دستورية وثيقة الصلة بالجيش والمهام والعدة والعتاد.

وفي معرض البحث عن أسباب تحوّل يعتبر تاريخياً بمقاييس كثيرة، يمكن أن نضع على رأس القائمة الغزو الروسي لأوكرانيا، وهزاته الارتدادية في أوروبا والعالم. ومع ذلك، لا يبدو من السابق لأوانه القول إن هذا التحوّل يمثل تتويجاً لمسار طويل أكثر من كونه عملية انعطاف حادة ومفاجئة. ومن الدوافع التي تستحق التفكير، في هذا الشأن، ما استخلص الأوروبيون من دروس خلال وجود ترامب في البيت الأبيض، والكثير منها قرع أكثر من جرس للإنذار.

فلم تعد حماية الأميركيين للسلم والأمن الأوروبيين مضمونة، ويمكن الرهان عليها بالمعنى الاستراتيجي، كما كان الشأن في زمن الحرب الباردة، وبعدها. ومع ذلك، وحتى في حال وجودها، والرهان عليها بقدر أقل من الطمأنينة، إلا أن أميركا في زمن دونالد ترامب جعلت منها موضوعاً للمساومة والإهانة والابتزاز (ففي أكثر من مناسبة أنتقد الرئيس الأميركي الألمان والأوروبيين لعدم دفعهم حصّة عادلة مقابل الحماية). 

والمهم، بقدر ما يتعلّق الأمر بالدروس السلبية تضافرها مع تحوّلات مقلقة توحي بدخول أوروبا والعالم في طور جديد من أطوار الحرب الباردة. وهذا ما فاقم منه تسلّح الروس، وسلوكهم العدواني التوسعي، وتزايد الارتياب في إمكانية تحويل المصالح التجارية والاقتصادية المتبادلة مع الروس إلى ضمانات للأمن والسلام.

3-أخيراً، في الأفق احتمال لا نعرف تطوّراته اللاحقة، ولكنها (كائناً ما كانت) وثيقة الصلة، بما يحدث في أوكرانيا وأوروبا والعالم. قبل سنوات طرح عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي السؤال التالي “هل سيكون القرن 21 أميركياً”. كان هذا السؤال، وما زال، على رأس القائمة في اهتمام خبراء السياسة والاستراتيجية الأميركيين، وفي كل مكان آخر على الأرجح.

المهم، وفي عجالة، يعتقد ناي أن لا أحد في العالم يستطيع تحدي وإزاحة القوّة الأميركية، عن القمّة، لأسباب تتعلّق بالقوة العسكرية والاقتصادية ومهارات الابتكار. لذا لا الصين، ولا روسيا، يمكنهما تحدي القوّة الأميركية. ولكن، إذا تحالفت القوتان الروسية والصينية تصبح حظوظ الأميركيين أقل بكثير.

لذا، ثمة ما يبرر مراقبة ما يفعل، وما لا يفعل، الصينيون، هذه الأيام، إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا، طالما أن في الأمرين ما ينطوي على دلالات استراتيجية بعيدة المدى، وكلها تدخل، بالتأكيد، في حسابات مختلف القوى بشأن إطالة أمد الحرب، ومدى حدتها، واحتمال توسعها، وفقدان آليات الضبط والسيطرة.

إقرأوا أيضاً: