fbpx

هدايا الأم والإفلاس: إبداع في مواجهة العجز

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إن كان العقل البشري أكثر إبداعاً من الحياة في مواجهة الإفلاس والعجز الاقتصادي، إلا أن العاطفة تتفوق على العقل وعلى عاتيات الأيام والظروف حالكة السواد والقهر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدا عيد الأم هذا العام مختلفاً، تعصف بالبلاد أزمات متعددة، غلاء لا حد له، مواد أساسية مفقودة، هجرة ولجوء وعائلات مفككة، خوف من الساعة الآتية وكأنها تحمل بين طياتها موتاً محتماً أو انهياراً معيشياً تاماً، حروب متجددة، مواجهات يومية من أجل تأمين رغيف الخبز ومن أجل الحفاظ على الممتلكات، وسعي محموم عاجز غالباً عن منح الأمهات الوصاية على أطفالهن الأيتام بغياب الأب أو تثبيت أنسابهم، أو الفوز بمنزل يحمي الأم وأطفالها من الحياة القاسية… 

في مواجهة عواصف الأيام ينهض العقل البشري أقوى من كل هذه الظروف، ويتفوق الإبداع الإنساني دوماً على عاتيات الأيام وسواد الحياة وقسوتها.

وإن بات عادياً ومن بدهيات العيش أن ينتظر الأبناء والبنات يوم عيد الأم لتقديم هدية للأم في يومها المشهور والمعروف، وبرغم وجود الرغبة واكتمالها لكن الواقع يعاند الرغبات، ويغيّر الاختيارات ويصير البدهي عبئاً ثقيلاً غير قابل للتحقق ولا للتلبية.

قررت بنات سميحة الخمس شراء بطارية لوالدتهن في يوم عيدها، درسن الأولويات، كانت البطارية هي الهدية الأجدى بخاصة أنها تؤمّن للأم إمكانية مشاهدة التلفزيون وبرامجه وشحن الهاتف الجوال في أي وقت، رحبت سميحة بالهدية كثيراً ووجهت الدعوة لصديقاتها وجارتها لشحن جوالاتهن في بيتها المدلل والمزود بمصدر دائم لأنوار لا تنطفئ.

في مواجهة عواصف الأيام ينهض العقل البشري أقوى من كل هذه الظروف، ويتفوق الإبداع الإنساني دوماً على عاتيات الأيام وسواد الحياة وقسوتها.

ما بين تقديس الأم وإكسابها صفات بطولية خارقة ودعوات حديثة العهد إلى تغيير الصورة النمطية للأم المقيدة بصورة المرأة المضحية والصابرة على الذل والعنف والفقر والتمييز في سبيل الحفاظ على عائلتها، لدرجة قبولها بزوجة ثانية وثالثة ورابعة، وفي ظل تبدل وظيفي واضح في أدوار المرأة الاجتماعية، تبدل فرضته الحرب، تبدل معنى عيد الأم أيضاً وغيرت الظروف العامة وبخاصة الانهيار الاقتصادي وازدياد هشاشة الأرضية التي تستند عليها النساء، ومن معنى الأعياد وخاصة عيد الأم.

 مهما حاولت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات الطرقية التجارية والدعايات الورقية أو الالكترونية أو التلفزيونية والإذاعية، تصوير العلاقة مع الأم وكأنها علاقة عاطفية تبادلية يحكمها واجب رد الدين من الأبناء والبنات للأمهات وذلك عبر الكلام المعسول والهدايا الاستهلاكية التي ينتظر مسوقوها يوماً كعيد الأم لتسويقها وجني الأرباح الطائلة منها، إلا أنه للحقيقة وجه آخر.

اعتادت بنات اخت كوثر على معايدتها في هذا اليوم، كوثر أرملة لم تنجب أطفالاً، لكن بنات أختها الأصغر يعاملونها كأم لهم، قرروا هذا العام تغيير الهدية شكلاً ومضموناً، لم تعد الملابس فكرة مفضلة لغلاء أسعارها أولاً، ولأن الحاجة الموضوعية أكبر منها بكثير، اجتمعت البنات وقررنّ إهداءها كيلو من لحم العجل.

كانت عبارة عن مغلف ورقي زاهي الألوان مربوط بشريطة حمراء، وعندما فكت كوثر الشريط، رأت منظرا مهولا، خمسة أكياس من النايلون الشفاف محشوة باللحم الأحمر الحقيقي، صرخت كوثر بالبنات الثلاث وقالت: “يا ويلكن من الله! كل كيس وقية!”، وما كان منها إلا أن قسمت محتويات كل كيس إلى ثلاثة أجزاء، صار لديها 15 كيساً، صرخت مهللة “سآكل لحمة كل يوم، وكل كيس طبخة ليومين”! 

إقرأوا أيضاً:

يتواطأ الآباء مع الأبناء لإتمام صفقة هدية عيد الأم، فقدرة الأبناء الشرائية وخاصة غير المنتجين عاجزة عن إكمال كلفة الهدية، وافق أبو ياسر على منح أولاده ثمن قالب الكاتو: مع أنه استدان قيمته كسلفة على الراتب من رب عمله، عندما سأل الأبناء أمهم عن هدية عيد الأم أجابت: (بس قالب كاتو)! لم تكن تعرف أن قيمة القالب المزين تساوي 50 ألف ليرة، ظنت أن أبناءها سيشترون قالباً شعبياً رخيصاً بلا زينة، لكنها حين عرفت ثمن الهدية بكت وتحسرت، كانت قيمة القالب كفيلة بتأمين معيشة البيت ليومين، وربما يمكنها ترميم العجز في بعض المواد التموينية الأساسية، وربما كان ثمن قالب الكاتو كافياً لشراء حذاء مريح لها، بدلاً عن حذائها المهترئ والذي يفاقم آلام ظهرها، أسقط في يدها، وفرحة الأبناء بالقالب أنستها كل أسفها وندمها على تحديد الهدية المنشودة.

في تكثيف بنيوي للعلاقة الشائكة ما بين الأغنياء والفقراء يصر الفقراء على إهداء الأغنياء هدايا يحلمون باقتنائها، بينما يهدي الأغنياء للفقراء ما لا يحتاجونه، ولذلك يمكن اعتبار إصرار الفقراء على عملية الإهداء وكأنها رد لدين ينبغي رده مهما كان مكلفا، أهدت أم مريم وبناتها السيدة صباح هدية كبيرة وغريبة جداً، فقد وافقن على رعاية كلبها الضخم في بيتهن في أطراف المدينة لتسافر في رحلة ترفيهية بمناسبة عيد الأم، لا أموال لديهن، والسيدة صباح التي تعمل أم مريم في بيتها كريمة معها، تمنحها كل ما يزيد عنها من طعام وبخاصة في الولائم واجتماعات العائلة الأسبوعية على وجبة غداء دسمة  تعدها أم مريم شخصياً، وافقن على استقبال الكلب مع أن فرح الابنة الصغرى لأم مريم لديها رهاب الكلاب وتتحسس من وبر أجسامها، لكن أم مريم أرسلت ابنتها فرح إلى بيت جدها كي لا ترد طلب السيدة صباح!

 وفي حكاية أخرى أكثر نبلاً وعاطفة، فوجئ سكان أحد الأبنية العالية في حي مرموق في المدينة بثلاث فتيات في أعمار متقاربة، رنت أكبرهن جرس منزل في الطبقة الأولى، لتطلب ماء لشطف الدرج، وبعد الاستفسار، تبين أن الفتيات الثلاث هن بنات السيدة التي تشطف درج بناءين في الحي، كانت هدية البنات هي إراحة الأم في يوم عيد الأم واستلام شطف البناءين بدلاً عنها، قالت الابنة الكبرى: لطالما طالبنا أمنا بمرافقتها لمساعدتها في عملية الشطف، لكنها كانت ترد دوماً: ابقين في البيت وانجزن دروسكن جيداً، وكان ردنا أننا فرضنا عليها اليوم أن تبقى هي في البيت، وسنعود إليها سريعاً لنحتفل معاً!

وإن كان العقل البشري أكثر إبداعاً من الحياة في مواجهة الإفلاس والعجز الاقتصادي، إلا أن العاطفة تتفوق على العقل وعلى عاتيات الأيام والظروف حالكة السواد والقهر.

إقرأوا أيضاً: