fbpx

“البيئة” للبيع في لبنان: مقايضة الصحة بالدولار “الطازج”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الآونة الاخيرة وعلى وقع الانهيار الاقتصادي الذي يضرب لبنان منذ عام 2019، نشطت تجارة Depot البيئة (Catalyzer) بمقابل يصل إلى 2000 دولار للعادم الواحد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أن أموت بالسرطان بعد سنة مش أحلى ما موت من الجوع ع بكرا”، هكذا أجابني العم يوسف، وهو رجل ستيني، ركن سيارته عند كراج تصليح  عوادم الهواء أو “الاشبمانات” ليبيع ما يصطلح على تسميته “ديبو البيئة” (منظم الغازات الملوثة المنبعثة من السيارة) في سيارته.

مثله مثل غيره من اللبنانيين الذين هبطوا إلى ما دون خط الفقر، اضطر يوسف الذي يعمل في القطاع العام، الى مقايضة صحته بالغذاء عبر بيع ديبو البيئة في سياراته، لأن راتبه أصبح يساوي أقل من 30 دولاراً على سعر الصرف في السوق السوداء.

وديبو البيئة: اسمه العلمي Catalytic Converter، قطعة موجودة في كل سيارة حديثة (عمرها اقل من عشرين سنة) مهمتها الأساسية تحويل المواد الضارة الملوثة للهواء في غازات عادم السيارة، مثل أول أكسيد الكربون وأكسيد النيتريك وثاني أكسيد النيتروجين والهيدروكربونات، إلى مواد أقل ضررًا مثل ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء من طريق التفاعلات الكيميائية.

العم يوسف الذي التقيته في ورشة تصليح عوادم الهواء لا يهتم أبداً لكل هذا الشرح العلمي، ويقتصر الأمر بالنسبة إليه على بيع قطعة في سيارته بمبلغ 500 دولار (تزيد على 12 مليون ليرة بحسب سعر صرف السوق السوداء). ولا يؤثر ذلك في وظائف سيارته الأساسية، فيما الضرر الذي يلحق بالبيئة فهو في آخر أولوياته، مشيراً بأصبعه في الوقت ذاته الى مكب عشوائي للنفايات في مقابل الكراج: “هل قلتِ بيئة؟”، يسألني بنبرة ساخرة.  

في الآونة الاخيرة وعلى وقع الانهيار الاقتصادي الذي يضرب لبنان منذ عام 2019، نشطت تجارة Depot البيئة (Catalyzer) بمقابل يصل إلى 2000 دولار للعادم الواحد. ويعثر متصفّح مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان على إعلانات كثيرة تشجع الناس على بيع هذه القطعة مقابل مبالغ مغرية. وبدا الأمر لنا مثيراً للشكوك، لماذا هذه القطعة مطلوبة ومرتفعة الثمن في السوق اللبناني وما هي قيمتها الفعلية؟

اتصلنا ببعض الأرقام المتوفرة في إعلانات على موقع “فيسبوك” للسؤال عن “صفقة” مبادلة “ديبو البيئة” بمبالغ مالية. جاءت الإجابات أن عليّ أن أحضر السيارة إلى الكراج للكشف، وإخراج “ديبو البيئة”، وعلى أساس حالته، يسعّرونه، ويدفعون ثمنه “كاش” بالدولار. إنه إغراء إضافي لكثير من اللبنانيين الذين يبحثون عن العملة الصعبة في ظل انهيار الليرة اللبنانية، حتى بتنا نجد سيارات في مناطق فقيرة بأكملها بدون عوادم الهواء. اتصلت برقم آخر وحاولت إيهامه أنني أريد شراء “ديبو بيئة” لسيارتي، فأكد لي المجيب استحالة إيجاد ديبو مستعمل للبيع، وإن وجد فسعره سيكون مرتفعاً جداً. تالياً، يفضل الذهاب إلى شركة السيارات لشراء واحد جديد، “نحن منشتري وما منبيع” قال لي الرجل.

لماذا إذاً يشترون هذه القطعة بأعداد كبيرة ويتكبدون كلفة الإعلان عن ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ما الفائدة المادية التي يجنونها منها إذا كانوا لا يبيعونها في السوق؟

يكمن الجواب في المواد المعدنية الموجودة في “ديبو البيئة” مثل البلاديوم والبلاتين والروديوم التي ارتفعت أسعارها في الأسواق العالمية بعد أزمة “كوفيد-19”. أي أن “التجار” اللبنانيون يبيعون “ديبويات” البيئة لجهات خارجية بعد شرائها من الناس. وقال لي المتكلم، “نحن مجرد صلة وصل، نسلّم هذه القطع لشركة بلجيكية تخرجها من لبنان على أساس أنها نفايات، يمنع إدخال هذه المواد إلى لبنان لكن يُسمح بتصديرها. عملنا غير مخالف للقانون ونحب أن نشكر الشركة البلجيكية التي تساعدنا بالدولار الفريش، لولاها لكنا “متنا من الجوع، أو انتفضنا”. وبعد البحث عن هذه الشركة، تبين أن اسمها، وبحسب بعض الوكلاء، Umicore وهي شركة متخصصة باعادة تدوير مواد كيمائية ثمينة تستخدم في تنقية الهواء. (أرسلنا لهم بريداً الكترونياً ولا نزال في انتظار الجواب).

كريم عميص شاب عشريني يعمل في مجال السيارات، أخرج “ديبو البيئة” من سيارته وباعه، برغم علمه بآثار انبعاثات عوادم السيارة على الهواء، لأنه مقتنع تماماً بان الـ”ديبو بتخلص مدته بعد عشر سنين، بيصير متل قلته”. لقد باع كريم ديبو البيئة فور شراء سيارته، ويقول، “اشتريت مرسيدس ml فيها أربعة ديبوهات بيئة، بعتها كلها ولا أنوي تركيب غيرها لأنها ستكلفني أكثر من ثمن السيارة”.

يؤكد كريم ان بيع الديبو لا يؤثر على السيارة ميكانيكياً، لكنه لا ينكر انه يؤثر على صحة السائق والمحيط على المديين المتوسط والبعيد. ويشير الى الرائحة الخارجة من السيارة بعد بيع الكاتالايزر، لكن لن يعطل خلوّها منها اجتياز الفحص الميكانيكي.

إقرأوا أيضاً:

تكمن الخطورة في ما يقوله كريم. فإذا صحّ أن السيارات التي تزيل “ديبو البيئة” تجتاز الفحص الميكانيكي، فهذا يعني أن الدولة تسمح بانتهاك المعايير البيئية المعتمدة عالمياً، والتي يفترض أن تتضمّنها قوانين الدولة. وقد صرّح رئيس مصلحة تسجيل السيارات في وزارة الداخلية اللبنانية، في مقابلة سابقة بأن “نقاط فحص معاينة ميكانيك السيارة التي حددها القرار 824 الصادر عن وزارة البيئة، عام 2003، لا تشمل Depot البيئة”.

يشدد وزير البيئة ناصر ياسين لـ”درج” على أهمية “ديبو البيئة” للحماية من تلوث الهواء، وتبذل الوزارة بحسب قوله جهدها من أجل تخفيف آثار مصدرين من التلوث: مولدات الكهرباء والسيارات. ويقول الوزير: “قطاعا النقل والطاقة هما أكثر قطاعين ملوثين، فكيف نسمح بأمر كهذا؟ ما يحصل غير مقبول وهناك قرار واضح وصريح هو القرار 341 الذي ينص في مادته الثالثة في الفقرة (ج) على إلزامية وجود الديبو في السيارة. يتوجب الاستعمال الإلزامي لجهاز المحول الحفزي catalytic converter- pot catalytique في عوادم جميع المركبات الآلية التي صنعت في 2002 وما فوق”.

يقرّ ياسين بمعرفته بوجود سوق لبيع ديبو البيئة على “فيسبوك”، لكنه لا يعلم أن السيارات التي أزالت ديبو البيئة تجتاز الفحص الميكانيكي. “إنه مخالف لكل الاتفاقيات الدولية التي وقّعها لبنان للتخفيف من تلوث الهواء وإدارة المواد الكيماوية”. وعند الاستفسار من مصلحة تسجيل السيارات عن الموضوع، جاء الجواب بأن: “الفني في مراكز المعاينة الميكانيكية يقوم بفحص انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون فقط. عملياً يذهب الأشخاص الذين لديهم سيارات غير مطابقة الى ورشة الميكانيك لضبط ثاني اوكسيد الكاربون حتى يجتازوا الفحص، وبمجرد الانتهاء منه، يعيدونه إلى الوضع القديم”.

وأشار الوزير لـ “درج” الى ان التلوث في لبنان يصدم، قائلاً: “الكارثة كبيرة وكلفتها الصحية أكبر. نحن نقدّر نسبة تلوث الهواء بتأثيرها في الفاتورة الصحية إلى خسارة أرواح الناس، بمليار دولار سنوياً”. وشدد على أنه سيرسل كتاباً بخصوص تنفيذ القانون ومنع السيارات التي تفتقد إلى “ديبو البيئة” من اجتياز المعاينة الميكانيكية، مضيفاً أن لبنان يحاول ادخال سيارات الهايبرد hybrid (الكهربائية) مع اننا نعرف أن الوضع الاقتصادي صعب، لكننا نأمل على المدى البعيد أن ننجح في إيجاد نقل عام صديق للبيئة.

ويشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن نحو 7 ملايين شخص في العالم يموتون جراء الأمراض والعدوى المتعلقة بتلوث الهواء، أي أكثر من خمسة أضعاف من عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب حوادث مرور السيارات. كما يؤثر تلوث الهواء على الدماغ ويسبب التأخر في النمو ومشكلات سلوكية إلى انخفاض معدل الذكاء لدى الأطفال. أما عند كبار السن، فترتبط الملوثات بأمراض الزهايمر والباركنسون. 

وتتعرض المناطق الفقيرة على المديين المتوسط والبعيد أكثر من غيرها لتلوث الهواء، ذلك أن الأغنياء لا يضطرون لبيع ديبو السيارات ليُسر حالتهم الاقتصادية. تبعات اللاعدالة الاجتماعية هذه ستحوّل مناطق فقيرة بأكملها إلى مسكن للأمراض المزمنة الخطيرة.

ياسين كشف أن جميع محطات قياس تلوّث الهواء في لبنان والتي يبلغ عددها 26 محطة، متوقفة عن العمل منذ عام 2018، أي قبل أن يتسلم وزارته بسنوات. ويقول بهذا الشأن، “الآن بمساعدة من منظمات دولية نحاول إعادة احيائها، لكن الأمور تسير ببطء، ننتظر التمويل، نتمنى أن نستطيع تشغيل 6 او 7 محطات بحلول الصيف القادم”.

يعيدنا حديث الوزير الى العم يوسف الذي سخر من تلوث الهواء في ظل ما يعيشه اللبنانيون من خراب. يقول العم يوسف في محاولة لتبسيط فكرته: “تخيلي انك تعيشين في بيت وسط صحراء قاحلة، لديك طعام يكفي لعام داخل ثلاجة، ولديك مولد كهرباء يصدر انبعاثات مضرّة على المدى البعيد، هل تطفئين المولد وتموتين بعد أيام مع تلف الطعام من الجوع أم تخاطرين؟”.

يعرف يوسف تماماً أن المخاطرة الصحية الناتجة عن ذلك، ستكلّفه وتكلّف محيطه أضراراً صحية يفوق ثمنها أضعاف ما حصل عليه من بيع “بيئته”، لكنه قرر أن يبيعها برغم ذلك، لأن همه الأول هو الحصول على موارد “الغد”؛ ولأن غياب العدالة في لبنان جعل الحديث عن المستقبل نوعاً من الترف.  

تم إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.