fbpx

الحبس الانفرادي في مصر: 
إجراء غير قانوني يوازي التعذيب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كان أشبه بالموت البطيء، كنت أبحث عن سجناء من زنازين مقابلة يمكنني التحدث معهم من خلال نظارة الزنزانة، أتحدث إلى الشخص المقابل في الزنزانة الأمامية وأتخيّل أنه يشاركني تناول الطعام الذي أتناوله وحدي يومياً، وبعد دخوله إلى زنزانته، أتوجه إلى الشاويش المكلّف بحراسة العنبر، في أحاديث مكررة يومياً. لا جديد بها، وإنما هي محاولة للحديث مع شخص آخر بدلا من الجنون”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في إحدى ليالي يناير/كانون الثاني الباردة، يقف محمد أمام الفتحة الصغيرة في زنزانته، والتي يطلق عليها “نظارة”، يتمنى مشاركة شخص آخر كوباً من الشاي الساخن، لكنه لا يجد غيره في الغرفة وحيدا، عليه أن يحتمي بالبطانية وبكوب الشاي البلاستيكي، الذي يعده لنفسه.

على مدار 21 شهرا، قضاها محمد سيد في زنزانته وحيدا محبوسا انفراديا، بعد أن تم إلقاء القبض عليه في نهاية عام 2018، لتوجه له التهم المعتادة التي توجه للمعارضين السياسيين، وهي “نشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة محظورة”. كان يبحث عن ونيس يتحدث إليه، ليصف حبسه الانفرادي الذي أكل من روحه وعقله.

يقول محمد لـ”درج”: “لم أتخيل يوما أن أقضي 24 ساعة وحدي، دون أحد، علي ممارسة جميع الأنشطة، أو ما يمكن أن يطلق عليه أنشطة داخل الحبس وحدي، أتناول الطعام بمفردي، ولا أعرف ما يدور في الخارج سوى من خلال ما يقرب من 30 دقيقة هي مدة التريض اليومية التي التقي بها بسجناء آخرين فأعرف منهم سريعا ما يدور”.

كان الأمر في البداية “شبه مستحيل” كما يصفه محمد “كان أشبه بالموت البطيء، كنت أبحث عن سجناء من زنازين مقابلة يمكنني التحدث معهم من خلال نظارة الزنزانة، التي تبلغ مساحتها مترين بـ 3 أمتار، أتحدث إلى الشخص المقابل في الزنزانة الأمامية وأتخيّل أنه يشاركني تناول الطعام الذي أتناوله وحدي يومياً، وبعد دخوله إلى زنزانته، أتوجه إلى الشاويش المكلّف بحراسة العنبر، في أحاديث مكررة يومياً. لا جديد بها، وإنما هي محاولة للحديث مع شخص آخر بدلا من الجنون”.

 “لم أتخيل يوما أن أقضي 24 ساعة وحدي، دون أحد، علي ممارسة جميع الأنشطة، أو ما يمكن أن يطلق عليه أنشطة داخل الحبس وحدي، أتناول الطعام بمفردي، ولا أعرف ما يدور في الخارج سوى من خلال ما يقرب من 30 دقيقة هي مدة التريض اليومية التي التقي بها بسجناء آخرين فأعرف منهم سريعا ما يدور”.

الجنون الذي يتحدث عنه محمد، قال إنه وصل إليه مرات عدة خلال حبسه انفراديا، فكان يفكر في ما سيحدث لو مات وحيدا في زنزانته ولم يشعر به أحد حتى الصباح. لو كان في زنزانة أخرى بها سجناء، سيشعرون به، ويحاولون إسعافه، إنما هو يمكث وحيدا في عزلة إجبارية “في كل ليلة كنت أفكر في الموت، إما الخوف من الموت بمفردي، أو محاولة الموت للخلاص من تلك الفترة، وما كان يمنعني من المحاولة هو عدم وجود أشياء حادة بحوزتي تساعدني على القرار الذي كنت أراه أهون من العزلة”.

في تقرير نشرته منظمة العفو الدولية عام 2018، ذكرت أن أن هناك سجناء بتهم سياسية يُحتجزون رهن الحبس الانفرادي المطوَّل وإلى أجل غير مُسمَّى في مصر، وفي بعض الحالات استمر هذا الحبس سنوات عدة، وهو الأمر الذي يُعد في حد ذاته بمثابة نوع من التعذيب. ويظل السجناء محبوسين في زنازينهم لما يقرب من 24 ساعة يومياً على مدى أسابيع، ويُحرمون من أي اتصال إنساني، ويُجبرون على البقاء في ظروف مروِّعة في الزنازين.

وخلال التقرير، علقت نجيَّة بونعيم، مديرة الحملات لشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية: “بموجب القانون الدولي، لا يجوز استخدام الحبس الانفرادي كإجراء تأديبي إلا باعتباره الملاذ الأخير، ولكن السلطات المصرية تستخدمه كعقاب إضافي مروِّع للسجناء ذوي الخلفيات السياسية، وتطبِّقه بطريقة وحشية وتعسفية، بهدف سحق إنسانيتهم والقضاء على أي أمل لديهم في التطلع إلى مستقبل أفضل”، ووثَّقت منظمة العفو الدولية 36 حالة لسجناء احتُجزوا رهن الحبس الانفرادي المطوَّل وإلى أجل غير مُسمَّى، وبينهم ستة عُزلوا بشكل غير مشروع عن العالم الخارجي منذ عام 2013 وحتى عام 2018.

ما كان يعاني منه محمد ليس التبعات النفسية فقط، بل أيضاً تبعات معيشية “بسبب جلوسي وحيدا في حبس انفرادي فكان لا يمكنني مشاركة الآخرين في طعامهم، كما يحدث مع باقي السجناء في الزنازين وهو أمر متعارف عليه، فكنت ألجأ إلى شراء الطعام من مقصف السجن مما كان يكبّدني مبالغ مالية طائلة، حتى لا اضطر للجوء إلى طعام السجن الذي لا يصلح للتناول”.

كانت “تجديدات الحبس”(بحسب القانون، يحق للنيابة تجديد حبس المتهمين على ذمة القضايا التي تنظر أمامها، لمدة 10 جلسات متتالية، بين كل جلسة والأخرى 15 يوما، أي لمدة 150 يوما فقط. وبعد تجاوز مدة الـ150 يوما، يتحول تجديد الحبس أمام محكمة الجنايات، ولكن تصبح المدة بين كل جلسة 45 يوما) التي يخرج بسببها محمد كل 45 يوما، هي المتنفس الوحيد له لرؤية أشخاص آخرين، منهم المحامون “كنت أنتظر مواعيد تجديدات الحبس مع علمي التام أنها جلسة ستنتهي بعودتي مجددا إلى الحبس، ولكنها كانت فرصة لرؤية بشر، أي بشر آخرين بعيداً من جدران الزنزانة المغلقة، التي كانت تغلق على روحي وكأن قضبانها الحديدية أسياخ تحيط بصدري”.

أخبار العالم المحيط، كانت تصل إلى محمد من خلال “تجديدات الحبس”، وأيضا الزيارات الأسرية التي كانت تتم مرة واحدة كل أسبوع، ليبدأ بعد تلك الزيارات مرحلة جديدة من العزلة التي أجبر عليها، وبعد 21 شهراً من تلك العزلة، وصدور قرار بإخلاء سبيله إلا أن آثارها لا زالت تلازمه “على الرغم من مرور أكثر من عامين على قرار إخلاء سبيلي، إلا أن تلك العزلة ما زالت ترافقني، لا أعرف التعامل مع المحيطين ولا أجيده كما كنت أفعل في الماضي، حتى أصبحت الوحدة ملازمة لي، لأخرج من السجن في سجن جديد دون أسوار”.

إقرأوا أيضاً:

ربما كان حظ محمد أفضل قليلا من الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والمحبوس انفراديا منذ ما يقرب من 4 سنوات، فمحمد كان بحوزته راديو ويمكنه قراءة الجرائد يومياً والإطلاع على الكتب على عكس أبو الفتوح، فمنذ إلقاء القبض عليه من اليوم الأول وهو مودع في زنزانة انفرادية دون راديو أو كتب أو أي وسائل للإطلاع على أخبار العالم الخارجي.

يقول نجله حذيفة لـ”درج”: “أبي كان في زنزانة انفرادية في عنبر خالي من السجناء، فظل حتى أكتوبر من العام الماضي أي أكثر من 3 سنوات منذ القبض عليه لا يمكنه التحدث مع أحد سوى الشاويش المكلف بحراسة زنزانته، حتى بدأ توافد سجناء آخرين في الزنازين المقابلة له، وحتى في فترة التريض يخرج خلالها بمفرده حتى لا يراه أحد ولا يتحدث مع أحد”.

ويتابع حذيفة الذي لا يعرف سبب وجود والده في عزلة قاسية كهذه “تأثيرات الحبس الانفرادي تظهر جيدا على والدي، فأصبح قليل الكلام في الزيارات، لا يردد سوى إجابات على أسئلة نطرحها عليه عن حالته الصحية وما يعانيه بالحبس، وكأن قلة الحديث مع الأشخاص أثرت عليه”.

يزيد من الأمر صعوبة، تعرض أبو الفتوح للعديد من الأزمات القلبية خلال محبسه وفقا لحديث نجله حذيفة “لو كان في زنزانة بها سجناء آخرين فكان الأمر سيكون أسرع في الاستجابة، ولكن وجوده وحيدا يجعل الأمر صعباً وأكثر خطورة، خاصة عند تعرضه لأزمة قلبية تصيبه بصعوبة في الحركة أو التعبير عن الألم، والتي كان أخرها حين طلب من الشاويش الذهاب إلى المستشفى، ليظلّ عالقاً في زنزانته حتى الصباح لأن الشاويش المكلف بحراسته لا يملك مفتاح العنبر، فظل حتى الصباح حين بدأ فتح العنابر للخروج للتريض، فيمكن تخيل الأمر لشخص تجاوز السبعين من عمره يعاني من أزمة قلبية لما يقرب من 10 ساعات دون استجابة طبية”.

ما حدث مع محمد، ويحدث مع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وآخرين، يتم دون غطاء قانوني، فيأتي الحبس الانفرادي بلائحة السجون في الفصل التاسع، ليكون من ضمن التأديب وليس العقوبة، ويأتي في المرتبة الخامسة، ضمن الجزاءات التي يجوز تطبيقها على المسجون، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس الانفرادي عن 15 يوماً.

محامي أبو الفتوح، أحمد أبو العلا ماضي يقول لـ”درج”، إن ما يتعرض له موكله وغيره العشرات من السجناء، “مخالف للقانون”، وبالرغم من تقدّمه ببلاغات عديدة للنائب العام ووزارة الداخلية، لمعرفة سبب إيداع موكله في الحبس بمفرده خلافاً للقانون، إلا أن تلك البلاغات لا يتم الرد عليها.

ويضيف ماضي: “لا يوجد معيار يمكن من خلاله فهم لماذا يوضع أشخاص بحبس انفرادي، لأنه لا توجد جهة رسمية ترد على البلاغات والشكاوى المقدمة، ليتحول الحبس الانفرادي من عقوبة تأديبية لمدة محددة، إلى عقاب مستمر ضد عدد من السجناء”.

في 3 مايو/أيار 2018، بعثت السلطات المصرية برسالة إلى منظمة العفو الدولية رداً على نتائج التقرير الذي أرسلته إليها، ورأت السلطات أن وضع السجناء في زنازين فردية لا يرقى إلى حد الحبس الانفرادي المحظور بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأن احتجاز السجناء في هذه الزنازين مرتبط بتصميم العديد من السجون في مصر، ولا علاقة له بمعاقبة السجناء على أساس خلفياتهم السياسية. لكن المنظمة ردت في تقريرها أن تفسير السلطات لا يبرر احتجاز السجناء في “زنازين فردية” لأكثر من 22 ساعة في اليوم لمدة تزيد عن 15 يوماً، وهو التعريف الأساسي للحبس الانفرادي المطول الذي “يرقى” إلى التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة.

ماجد محمد، قضى ثلاثة أعوام في حبس انفرادي منذ بداية عام 2014، وحتى الإفراج عنه في 2017، وعلى الرغم من مرور سنوات على الإفراج عنه بعد قضاء العقوبة، إلا أنه يتذكر تلك الفترة جيدا “كانت الأحوال حينها أفضل قليلا من الوضع الحالي، فكان يسمح بالكتب خلال الزيارات، وأيضا بأنواع مختلفة من الطعام”.

تعلم ماجد صنع البيتزا داخل السجن، وأيضا أصبح أكثر صبراً على قراءة الكتب التي كان يتململ منها في الخارج، لكنه في المقابل أصبح غير قادر على الاندماج مجتمعياً: “عقب الخروج من السجن ظللت لأكثر من 6 أشهر لا أخرج من المنزل، وبعد إلحاح كبير من أسرتي ذهبت إلى طبيب نفسي لبدء رحلة العلاج للتعافي من آثار التجربة، وحتى الآن يلازمني العلاج النفسي الذي يساعدني على تجاوز فترة مدتها على الورق 3 سنوات، ولكن تأثيرها في النفس أكثر بكثير من تلك المدة”.

في العام الماضي، سنّت نيويورك قانونا يعتبر أن السجن الانفرادي المطول يرتقي إلى جريمة التعذيب، وهي الحقيقة التي طالما ندّد بها الخبراء الطبيون والمدافعون عن حقوق الإنسان والناجون من السجون منذ سنوات عديدة.

إقرأوا أيضاً:

في مقالهما الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، قالت تامي غريغ نائب مدير مشروع السجون الوطنية لاتحاد الحريات المدنية، والمديرة التنفيذية لاتحاد الحريات المدنية في نيويورك دونا ليبرمان؛ إن نيويورك أصبحت أول ولاية تقوم بتدوين قواعد الأمم المتحدة لنيلسون مانديلا، التي تمنع استخدام السجن الانفرادي ل، 15 يوما متتالية. ورغم أن هذا الإجراء العظيم يُحسب لنيويورك، فإنه يجب ألا يتوقف عند هذا الحد، ويتوجب منع التعذيب في أي دولة حول العالم.

كانت الولايات المتحدة من بين أكثر دول العالم تشدداً وقسوة، التي تعتمد عقوبة السجن الانفرادي. وقبل ظهور كوفيد-19، احتجز حوالي 60 ألفا إلى 100 ألف شخص في السجن الانفرادي بشكل يومي في السجون الأميركية، وهو رقم يساوي أو يزيد تقريبا على إجمالي عدد نزلاء السجون في العديد من البلدان الكبرى، بما في ذلك فرنسا وتركيا وإسبانيا. وأدى الوباء إلى زيادة حادة في استخدام السجن الانفرادي في الولايات المتحدة، حيث احتجز أكثر من 300 شخص في هذه الظروف القاسية وغير الإنسانية اعتبارا من يونيو/تموز 2020.

واعتبرت الكاتبتان في مقالهما أن السجن الانفرادي بمثابة لائحة اتهام ضمن النظام القانوني الجنائي للولايات المتحدة، ويعد استخدامه جائزا، خاصة أنه نموذج مصغر للطرق التي يتم بها إنشاء السجون الأميركية لتجريد الأشخاص من إنسانيتهم وترويعهم، من دون أدنى اهتمام بإعادة تأهيلهم، أو قدرتهم على إعادة الاندماج في المجتمع، أو سلامتهم أو سلامة أسرهم؛ وتكون غالبا أضراره شديدة بشكل خاص على الحوامل وغير البيض والأفراد من ذوي الإعاقة والشباب وكبار السن المسجونين والمهاجرين.

أما في مصر، ومع محاولات كلاً من محمد وماجد للتعافي من آثار التجربة، يتمنى حذيفة أن يخرج والده من تلك العزلة، التي دفعته إلى كتابة وصيته التي سلمها إلى أسرته في الزيارة الأخيرة، ويطلب فيها حسن الخاتمة.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.