fbpx

“سينما زاوية” في مصر: الانحياز إلى الجمهور “الهاي كلاس” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يدور في المشهد الثقافي، والفنّي تحديداً، سجال مُستدام تذكر فيه تقسيمات ومفاهيم حول “الجماهيري” و”النخبوي”، سواء من ناحية تعريف المُنتج الفنّي، أو على مُستوى تحديد توجّه ثقافي، أو حتى ذائقة شخصية. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ صُعود السينما المُستقلة في مصر بعد عام 2010، تكوّن ما يُشبه جماعة سينمائية تتبنّى أشكالاً مُتقاربة في آليات الإنتاج وأدوات الصناعة الفنّية، وسواء اتفقنا أو اختلفنا على أن حضور ما هو بديل للمؤسسات التجارية المعنية بالقطاع الفنّي، كان يُمثّل “جماعة” أم لا، فقد رأينا على الأقل حراكاً مُحيطاً، يظهر حولنا مُنذ سنوات في تزايد ظهور أفلام روائية قصيرة، تصل إلى مهرجانات عالمية وإقليمية، وامتد ذلك إلى تأسيس سينما زاوية عام 2016، التابعة لشركة أفلام مصر العالمية. 

كان لسينما زاوية ظهور خلال سنوات ما قبل تأسيسها، من خلال العرض السنوي لمهرجان “بانوراما الفيلم الأوروبي” الذي كان تابعاً لأفلام مصر العالمية، ومنذ 2016 تبنّت زاوية عرضه في سينماها. تطورّت السينما التي عُرفت منذ انطلاقها، بأنها “سينما الأفلام التي لا تُعرض في السينما”، من مقرٍ صغير في سينما أوديون، إلى مقر أكبر حجماً يشملُ قاعتين في سينما كريم في وسط البلد. 

برغم انتشار عروض سينمائية لأفلام غير تجارية في الآونة الأخيرة، والتي تتبنّاها مؤسسات مُختلفة، مثل المراكز الثقافية الدولية في مصر، وبعض الجامعات التي لديها قاعات للعرض، مثل الجامعة الأميركية، وأيضاً وجود مهرجانات محلّية للأفلام القصيرة (منصّات- رؤى)، يظلّ حضور زاوية، الأكبر والأهم، من حيث العروض، بعد مهرجان القاهرة السينمائي، بحُكم قدرتها على المُداومة وفتح أبواب السينما طوال العام، والاهتمام بشراكات ثقافية لعرض برامج سينمائية مُختلفة. 

برغم الحضور الإيجابي في عمل سينما زاوية، ككيان مُهتم بعروض سينمائية غير جماهيرية، ثمّة نقاط إشكالية تتعلّق بالحراك الفنّي والثقافي للمكان، ليس باعتباره جهة عرض فقط، ولكن بوضع السينما في سياق معنيّ بالدور الذي يُمكن أن تعمل عليه المؤسسات البديلة، أو التي تكتسب صفة لا تندرج ضمن النُظم الإنتاجية التجارية، وفي هذا السياق يحضرُ أحد السجالات المُتعلقة بعروض زاوية السينمائية مُنذ فترة، وهو السؤال حول حضور أفلام تُعرض بترجمة غير عربية في بلدٍ عربي، وفي منطقة جغرافية لا تنتمي كلياً إلى مناطق الرفاه التي تستخدم اللغة الإنكليزية في حياتها، لبيان تفوّقها الطبقي، وبحثاً عن تفصيلات تمييزية.

منذ صُعود السينما المُستقلة في مصر بعد عام 2010، تكوّن ما يُشبه جماعة سينمائية تتبنّى أشكالاً مُتقاربة في آليات الإنتاج وأدوات الصناعة الفنّية

تشكّلات المكان 

يُعّرف موقع “السينما. كوم” سينما زاوية بأنها “سينما مُتخصصة في عرض الأفلام المستقلة التي تستهدف سوقاً مُتخصصاً بدلاً من السوق الذي يهدف إلى الربح، كما أنّها تعرضُ أفلاماً من مُختلف المهرجانات السينمائية من المنطقة العربية وأوروبا على مدار العام، ومن ثم فهي تُساهم في نشر الثقافة السينمائية في مصر”. 

يتطابق التعريف المذكور مع الشعار المُمثّل لمتن خطاب المؤسسة (سينما الأفلام التي لا تُعرض في السينما)، وتفصيلاً، يتبنّى مديرو ومُمثلو سينما زاوية وجهة النظر ذاتها خلال حواراتهم المرئية التي أجريت في سنوات سابقة.

حين بدأت سينما زاوية في “أوديون”، كانت قاعات عروض الأفلام محدودة، إضافةً إلى أنّ دورها في المكان انحسر في العروض فقط، بينما مساحات الإدارة والتشغيل لم تكن مُتوّفرة، لذلك انتقلت إلى سينما كريم لاحقاً، خلال شراكة بين زاوية وأفلام مصر العالمية، وشركة new century للإنتاج.

في سينما كريم، تمتّع فريق زاوية بمساحات إدارية وتشغيلية، إضافةً إلى قاعات أكثر سعة (القاعة الكُبرى تتجاوز 300 كُرسي- القاعة الصُغرى نحو 100 كُرسي)، وبالتالي توفّر لفريق المكان عقد شراكات إعلانية وداعمة واستقطاب برامج سينمائية مُضيفة لمشهد عروض السينما في مصر.

بالفعل، حققت زاوية حضوراً واسعاً في مرحلة قصيرة، لم يتوقّف التطور الإيجابي فقط على عرض برامج “مُرمّمة” لمُخرجين مصريين كِبار، مثل أفلام يوسف شاهين وخيري بشارة، وبرامج عربية أُخرى. كان لدى المكان طموحاً شديد الأهميّة، وهو شغلُ الأقاليم بعُروض سينما غير تُجارية، ورغم أنّ هذا المشروع لم يدُم طويلاً، وتم إيقاف عُروض زاوية في مُدن مصرية كثيرة، إلّا أن ذلك يُمكن ردّه إلى صعوبة استقطاب نسبة حضور كافية لتغطية تكاليف العروض. 

كل هذه آليات عمل مُهمّة وإيجابية، لكن من المُهمّ الوقوف هنا على بُعدين أساسيين، الأول، مُتعلّق بحوار للمُنتجة والمُخرجة ماريان خوري، التي تبّنت مشروع زاوية منذ بدايته، إذ تقول إن للنّاس حق مُشاهدة أفلام آتية من جهاتٍ أخرى من العالم. بينما في حوار آخر، يقول يوسف الشاذلي مُدير زاوية، أن سماع رأي الجمهور واقتراحاته شيء مُهمّ وله أولوية لدى الفريق. 

تُطالعنا إحصاءات عُروض أفلام زاوية على آليات عملٍ مُغايرة لأولية الإهتمام بتوفير أفلام بديلة للجُمهور- بالمعنى العمومي لفئات الجمهور-  أو الاهتمام برأيه واقتراحاته. في النُسخة الحادية عشرة من بانوراما الفيلم الأوروبي  في  2018، عُرض 40 فيلماً من دون ترجمة عربية، من مجموع نحو 65 فيلماً. النسبة الشحيحة ذاتها للفيلم المُترجم للعربية حضرت في نُسخة  البانوراما 2019، عُرض 57 فيلم بدون ترجمة عربية من مجموع 66 فيلماً، بينما نُسخة 2021، التي عُرضت في وقت مُتأخّر من العام بسبب جائحة “كورونا”، عُرض فيها 30 فيلماً بدون ترجمة، من مجموع 42 فيلماً، وظلّت هذه النسبة الهامشية لحضور الترجمات العربية بأفلام البانوراما حاضرة في النُسختين الأخيرتين، وبرغم وجود تساؤلات حول هذا السبب، إلا أنه لم يصدر عن الفريق، أو أي ممثّل لسينما زاوية، أي رد مُهتّم في هذا السياق برأي الجمهور. 

تدفعنا هذه الحالة إلى أفكار وأسئلة مُتباينة، أولها، ما المشكلة أصلاً في عرض أفلام غير جماهيرية بلغة إنكليزية؟ باعتبار أن لهذه النوعية جمهورها الخاص. 

البُعد القيمي للغة 

من البدهي أن اللغة الإنكليزية حالياً هي مادة مركزية لتكوين أي تراكُم معرفي، أو حتى تكوين فُرص أفضل في فُرص العمل، هذه الحيثيات بعيدة عن الصُور القيمية للغة الإنجليزية في الحياة اليومية، ومنها سياقات النقاش العادية لدى جمهور السينما، ثمّة تقليدٌ مُكوّن أن إدراج مُصطلحات غير عربية، بالضرورة، ولو بدون سياق، هو نشاط تراتبي لإعطاء انطباع بأنّ المُتحدّث “مُترفّع” عن محدودية اللغة العربية ومحليّتها. 

تدور عروض الأفلام بترجمات إنكليزية في السياق ذاته، لأنّ الأمر لا يتعلّق حصراً بإتاحة فُرصة لمزيد من الجُمهور، مع اعتبار أن هذه مسألة مُهمّة أيضاً، في ظل تصاعد مساحات الإقصاء من تكوين ثقافة سينمائية، لدرجة أن السينما تفرضُ على المُشاهد أن يُتقن لغة ما، هي مسألة تنأى تجاه تحقيق حالة “انتقائية” في أحقية الجمهور وفُرص مُشاهداته. 

تُحيلنا هذه الحالة إلى التفكير بمسألة الهوية.

ما يجعلُ وجود الترجمات العربية مُهمّشة، في أفلام تُعرض لجمهور عربي، هو أن الخصائص والمُميزات الاجتماعية والمعيشية تُستبدل بخصائص أخرى، لأن الآليات المحليّة التي تُشكّلنا، كأفراد داخل إطار جماعي، هي بالضرورة دفاعية ضد آليات أُخرى تعمل على صبغ فكرة “العالمية” بألقٍ يُلاشي الوعي بالمُعوّقات الداخلية لدى المُجتمع، من جهة فنيّة، ويجعلُ كل الحُلول المُمكنة هي حلول نلتقطها جاهزة دون عناء النظر إلى الواقع المحلّي والاشتباك معه. 

البُعد اللغوي هنا لا يدخل في إطار ضرورة التعبير فقط، أو الاشتباك الخلّاق في إطار فنّي مع اللغة اليومية، لكنه يتصاعد إلى تجهيل لُغة المكان في التعبير وتكوين انطباعات وتأملات ذاتية حول فيلم ما، فاللغة وسيط لتكوين مُخيّلة جماعية، تتم صياغتها لاحقاً إلى سلوكيات. 

برغم أن سينما زاوية، تدرّجت في خطوات تطويرية عدة مُنذ نشوئها، لكن ثبوت هامش الترجمات العربية في الأفلام، مثلما هو مذكور في إحصاءات سابقة، يُشير إلى أن هذه النُقطّة مُجهّلة، وأن آليات عرض الأفلام لخلق “ثقافة سينمائية في مصر” تُنتج ثقافة “مُنتقاة” أكثر منها ثقافة بطابع انفتاحي وعمومي، يشتبك مع المجتمع.

شعب الله المُختّار 

يدور في المشهد الثقافي، والفنّي تحديداً، سجال مُستدام تذكر فيه تقسيمات ومفاهيم حول “الجماهيري” و”النخبوي”، سواء من ناحية تعريف المُنتج الفنّي، أو على مُستوى تحديد توجّه ثقافي، أو حتى ذائقة شخصية. 

أحد تعريفات النُخبة الثقافية، هي أنّها تقوم على “التزام” في قيادة المجتمع أخلاقياً وثقافياً، يتمثّل في مُحاولة توسيع آليات الوعي بين أفراد المجتمعات. يُستخدم مفهوم “النخبوي” في المشهد الفنّي المصري من جهة تراتبية، فكل ما يُدرج ضمن النُخبّة، ويُحبّه الجمهور المُنتمي لنوعية الأفلام والآداب المُجهّلة والانتقائية، له بالضرورة قيمة في الجودة، وللمفارقة فإن ظهور النُخبة المُعلّمة للجماهير، يعود تاريخياً إلى نمط من التفكير ينتمي للأنظمة الشمولية. 

لا تُدرج تكتّلات النُخبة، طبعاً، ضمن المُساواة مع أشكال لها بُعد تجاري أكثر وضوحاً، لأن المُعتاد أن يكون هناك إصرار نُخبوي دائم تجاه لوم الوعي الشعبي والتقليدي. لذلك فإن أوهام النُخب وأشغالها تُصبح شيئاً، بينما الهم المُتجمعي والحاجة الفعلية لخلق حراك ثقافي وفنّي هو شيء آخر.

في كتاب الخطاب العربي المُعاصر، يتناول محمد عبد الجابري إشكالية النُخبة، مُوضحاً أن الوسيط الاجتماعي المُواكب للحداثة، قدّم للُجتمع فئة ثقافية اختصاصها الفكر، همّها السؤال والنقد والبناء، لكن مع غلق أبواب النقد هذه ونوافذ التساؤل، يحدث انطواء يؤدي إلى ذبول هذه الوظيفة الثقافية. 

يُكمل برهان غليون في كتاب اغتيال العقل تبعات ذلك الانطواء، مُشيراً إلى تكوين شُعور مُضخّم بالذاتية والفردية، أي تحديداً “مُجتمع المُثقفين” الذي يتكوّن داخل المُجتمع الكبير ويُعايشه من خلال فضاء المُجتمع المُنتقى الصغير، والمُنغلق على نفسه. 

لنُعيد التفكير في الحلقة المُنغلقة على ذاتها، يدخُل جمهور بانطباع مُسبق لأفلام تُقدّم في إطار انتقائي، بلغة انتقائية، يخرج ليُناقش انطباعاته بلغة نصف عربية نصف إنجليزية، مع أشخاص داخل إطار نفس المُجتمع الصغير. أي ثقافة سينمائية تتكوّن من هذا السياق؟ 

مفهوم “النخبة” المُتداول بين الجُمهور والمُتبنّى من خلاله باستسهال، لا يقوم بالأساس على التفضيل أو التراتبية، لأن نشاط النُخبة، في حالة السياق الفنّي المُتناول، يقوم على التزام تكتّلات، على اختلاف أفكارها، بمسؤولية تفعيل وتكوين أرضية مُنفتحة على المجتمع وليست مُتعالية عليه. 

لا يقوم النقد الحاصل في هذا المقال على محدودية عرض أفلام بترجمة عربية، لكنّه يُنمذج آلية العمل هذه ضمن حراك انتقائي ومُنفصل، يُحيل فعل المُشاهدة إلى حلقة مُفرغة، لا تخرج عن إطار الجماليات والذائقة والحضور الفردي، وذلك يحصر إمكانية تكوين مشهد ثقافي سينمائي قائم على المُشاركة، فالموجات السينمائية التي تُعتبر مرجعاً مُقدّساً، لا بد لجمهور النُخبة مُشاهدته والاحتفاء به، قامت بالأساس على همّ سياسي واجتماعي (الواقعية الإيطالية الجديدة)، أو على موقف ثقافي ومعرفي مُمتد إلى الاعتراض حول أفق الحرية في تناول الأفكار ونقد سياسات الإنتاج (الموجة الفرنسية الجديدة). 

لا يُمكن تجهيل أن نموذج سينما زاوية له حضور مُؤثّر في إمكانية تفعيل ثقافة سينمائية، إذ تتبنّى السينما، إضافة إلى عروض الأفلام، مهرجاناً سنوياً للأفلام القصيرة، لكن إيجابية عملها في مساحات عدة لا تمنع من نظرة مُساءلة حول التوجّه الانتقائي، ومن ثم نقد ذلك، لأننا بشكل أو بآخر، ندور في فلك مُشترك، وهو مُحاولة خلق ثقافة سينمائية فعلية لا تقوم على الانتقاء.