fbpx

 طبقيّة الغرق: مغامرة الغواصة و”اللامبالاة القاتلة” بالمهاجرين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كل من غرق اتخذ قراراً، المهاجر أراد النجاة، دفع بضع آلاف من الدولارات ليركب البحر باتجاه أوروبا، أما المليونير فدفع 300 ألف دولار ليهبط إلى عمق يتجاوز برج خليفة، لا مرةً، بل خمساً،  لتأمل حطام السفينة في الأعماق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا جدل في أن “المياه كلها بلون الغرق”، إن أردنا تبنيّ موقف إميل سيوران. احتمالات الموت في البحر، قائمة دوماً، قرشٌ يلتهم سائحاً في الغردقة على ساحل البحر الأحمر، مركبٌ مُحمّل بـ700 “مهاجر” يغرق في المتوسط، غواصة تحوي 5 أغنياء، ضاعت في المحيط الأطلسي وقضى كلّ من فيها، لا أمان في المياه إذاً، مساحة الطفو ذاتها، قد تصبح قبراً للسائح، والمغامر والمهاجر.

إنما، غرقٌ عن غرقٍ يختلف، ولو أن المياه ذاتها في كلّ مكان، وهذا تحديداً ما كشفه التناقض في الموقف الدوليّ، من حوادث “الغرق” الأخيرة، والرطانة الرسميّة في التعامل معها، فالموت إما بفعل الطبيعة (القرش) التي تثير الفزع، أو سياسات الهجرة العدوانيّة (قارب المهاجرين) التي تريد صون أوروبا،  أو الرغبة باكتشاف حطام “التايتنك” (الغواصة) لرفع أدرينالين المغامرة، وسطوة رأس المال في عمق البحر كما في الفضاء.

الاختلاف في “الغرق” يتضح في الخطاب الذي تم التعامل معه في مأساتين وقعتا معاً تقريباً، مصادفة. كشفت كل واحدة منها عن موقفين مختلفين من الغرقى، فالقارب غرق أمام أعين خفر السواحل، الذين مدّو حبلاً يتيماً لإنقاذ الـ700 مهاجر، الذين لا نعرف أسماءهم إلا بعد موتهم، لا أثناء غرقهم، فهم “مهاجرون”، “جراثيم” و”بكتيريا” ستلوث بياض أوروبا التي تخاف من “الاستبدال الكبير”.

أما الغواصة، فهي مغامرة رأسماليّة فرديّة، إذ عرفنا أسماء من فيها قبل أن تضيع، وما إن تاهت في عمق المحيط، حتى تعلقت الأعين بها، الرئيس الأميركي جو بايدن “تابع عملية البحث عن قرب”، تلك التي تحركت لأجلها السفن والغواصات والقوى العسكريّة، فمن تلاشى في المحيط، ليسوا مهاجرين، بل هم مستكشفون، باحثون عن حطام سفينة غطرسة “بيضاء”، أرادت شقّ عباب الأطلسي قبل مئة عام، وتحولت الآن إلى وجهة سياحيّة، هي سياحة تأمل الحطام إن صح التعبير.

كل من غرق اتخذ قراراً، المهاجر أراد النجاة، دفع بضع آلاف من الدولارات ليركب البحر باتجاه أوروبا، أما المليونير فدفع 300 ألف دولار ليهبط إلى عمق يتجاوز برج خليفة، لا مرةً، بل خمساً،  لتأمل حطام السفينة في الأعماق.

 الرحلتان اتجهتا نحو “المجهول”، لكن مخاطر كلّ منهما واضحة، فعقد رحلة الغواصة، يوضح للركاب أن هذه الرحلة ليست مضمونة، أو آمنة، وكلّ مغامر هو وشجاعته. أما في رحلة القارب، فلا ضمان إلا كلمة المهرّب، وشفقة خفر السواحل، تلك التي تجلت في حبل وأعين تراقب من هم على وشك الموت.

تتعمد سياسات الهجرة الأوروبيّة إقصاء راكبي البحر، الحرّاقين، المهاجرين، الهاربين من جحيم سوريا أو مصر أو ليبيا أو باكستان أو تونس، هم كتلة واحدة، غرباء، ولم يتوانَ اليمين المتطرف الأوروبي عن وصفهم بـ”الأعداء” و”سارقي الستائر” وتجريم من يساعد المهاجرين من أفراد أو منظمات، بتهمة الإتجار بالبشر، كلّ هذا لأنهم أرادوا النجاة.

 غرقى الغواصة مغامرون رأسماليون، دافعو ضرائب، أصحاب شغف بحكاية  تسرد لاحقاً في أمسية، عن مغامرة في عمق البحر، تشابه تلك التي خاضها المليونيريّة في الفضاء، أي يمكن القول، إن الغرق لا يليق بأرباب العمل، أصحاب الحكايات الممُتعة، أما طالبو العمل والمأوى، فهم تحت رأفة البحر.

يمكن القول إننا حالياً أمام لعنة المياه الدوليّة، تلك التي تتحول فيها الحيتان إلى جواسيس روسيّة لرصد الغواصات المعادية، وهي المياه التي تُدفع إليها قوارب اللاجئين كي تغسل حكومات الشطآن الأوروبيّة أيديها من أولئك القادمين. نحن أمام سياسات عدوانيّة، إذ تسقط حقوق الإنسان التي يضمنها أي دستور أوروبي، طالما أن “الخطر” يحدث خارج أراضيها ومياهها الإقليميّة التابعة للاتحاد الأوروبيّ، هناك، في المياه الدولية، مساحة الاستثناء، لا سيادة فيها إلا للشفقة والقوة الجسديّة، إذ يخضع من فيها لقواعد النجاة، وفي حالة القارب، فإن العنصريّة حاضرة حتى في الموت، هناك طبقيّة شديدة البدائيّة، قائمة على لون البشرة، الأغمق في الأسفل، والأفتح في الأعلى.

توجهت السلطات اليونانية مباشرة باللوم إلى المهاجرين الذين يخاطرون بحياتهم، ومهربي البشر المصريين الذين لا يراعون قواعد السلامة في تحميل قارب من المهاجرين!، أما خفر السواحل اليونانيّ الذي راقب لأكثر من عشر ساعات القارب، فلا لوم عليه، ما يحصل، خارج المياه الإقليميّة، هم كتلة بشريّة يدفعها الخوف والأمواج، في حين أن فريق الغواصة أشعل فرق إنقاذ “العالم” بعد ساعة ونصف من انقطاع الاتصال معهم.

المفارقة أيضاً، أن الغواصة تحوي أفراداً، أسماؤهم، وثروتهم وصفتهم كلها أصبحت علنيّة فوراً، لكن أحداً لم يوجه لهم اللوم، برغم أن أحد المستكشفين، رفض الرحلة لأنه لم يضمن نجاته، وهنا يمكن أن نفسر جشع رأس المال حين يقترن بالمغامرة، الخوف يصبح تهديداً للمال نفسه والسلطة التي تحميه، وقدرته، أي المال، على الانتشار و”الاستثمار” حتى في حطام تحت الماء.

اللافت أيضاً هي النظريات العلمية التي انتشرت لتفسير أسباب اختفاء الغواصة، انقطاع الاتصال، انفجار، ضياع في عمق بحر الظلمات، تلك التي رافقها رسوم بيانية وتصاميم 3D، كيف نعرف بدقة ما هي السيناريوات أمام الركاب الخمسة؟

المؤسسة العلميّة هنا أمام تحد، كيف تختفي غواصة في عمق البحر؟ هناك غطرسة من نوع ما، تشابه غطرسة “التايتنك” نفسها، تلك السفينة التي أيضاً أخفى غرقها تاريخ من التهميش، حكايات السود والعرب على متنها لم تذكر إلا مؤخراً، بل أن الفيلم نفسه أشبه بنبوءة طبقيّة، إن أحبّتْ غنيّة فقيراً، فستغرق السفينة ومن عليها، وستنجو هي لتحكي القصة، فيما يختفي الفقير في قاع البحر.

قارب اللاجئين لا أسماء من ورائه، ولا حكايات سوى عن الموت، لترهيب الآخرين، الهاربين المحتملين، الذين يواجهون السيناريوات ذاتها منذ موجة الهجرات عام 2012، والتي تلخص بـ”اركب البحر، وهناك، إما تغرق أو تنجو لتقيم في مخيّم”، لا ضرورة لروي تفاصيل كثيرة، حل موجز ومختصر، لكتلة بشرية غير مرغوب بها.

كلا الغرقين نتاج مخاطرة، شُجاعة أو حمقاء، لا نمتلك حق الحكم، لكن الشأن السياسيّ، هو ترك من هم في خطر لمواجهة الموت، وهنا بالضبط المأساة، أن تشاهد قارباً يغرق ثم تمد حبلاً فقط. هنا نحن أمام تنفيذ أوامر واضحة للممارسة التي سمتها الأمم المتحدة “اللامبالاة القاتلة”، تلك التي تحولت إلى شأن تكنولوجي،  هناك درونات من حرس السواحل الأوروبي، تراقب المياه الإقليمية الليبيّة قبل مغادرة المركب، أي مركب، لتساعد خفر السواحل الليبي على “اصطياد” قوارب المهاجرين واعتراض طريقها. المفارقة، أن هذه الدرونات محط جدل على السواحل الأوروبيّة، لأنها تنتهك حقوق الإنسان، أي ببساطة، حتى يكون الانتهاك على شواطئـ(هم)، لا الشواطئ البيضاء.

لا داعي لاقتباس من سيروان هنا، ولا تدليل الأمل بأن هذه ستكون آخر مأساة في البحر، فبعد أيام من غرق قارب المهاجرين أمام اليونان، غرق آخر أمام سواحل تونس، لكن العدد لم يكن مثيراً للاهتمام، ولم يضج في نشرات الأخبار، الكثرة إذاً هي ما يلفت الانتباه إن كنا مهاجرين، أما المغامر، فيكفي واحد أو بضعة، كي يعاد استكشاف المحيط الأطلسي مرة أخرى.