fbpx

“فقه” العباءة في فرنسا… خطر على العلمانيّة أم تخبّط سياسي؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أكثر ما يزيد الأمور تعقيداً هو الخطوات التطبيقيّة، التي ما زالت مبهمة بعض الشيء، إذ لن يصدر الوزير غابريال آتال قانوناً بهذا الشأن، ذلك يتعدى صلاحياته، إلى جانب مراعاة قانون العام  2004 لهذا الإجراء، بالتالي سيكون آتال عاجزاً عن حظر العباءة في المدارس على نحو شامل وقاطع. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فجّر وزير التربية الوطنية الفرنسي غابريال آتال قنبلةً من شاشة TF1 يوم الأحد الماضي، بقوله: “ابتداء من العام الدراسي المقبل، ستُمنع الطالبات من ارتداء العباءة في المدارس”. قرار جاء بعد شكاوى رفعها  150 مدير مدرسة طوال سنوات، مطالبين بتوضيحات إدارية للتعامل مع هذا الموقف. ولم يكن مستغرباً أن يثير هذا القرار جدلاً في الداخل الفرنسي، ويتحوّل إلى قضية رأي عام لافتقاده البديهية المطلوبة. 

وضع الوزير القرار في خانة الانسجام مع علمانية بلاده: “المظهر الخارجي للطلاب لا يجب أن يعكس انتماءاهم الدينية”.  يمكن القول إن ما قصده آتال هو التالي: فرنسا العلمانية تعتبر أن خلفية أي فرد وأصوله كما معتقداته أو ميوله الجنسية، لا تنفي وجود قيم مشتركة تسمح لكل من يقطن على الأراضي الفرنسية العيش بسلام وتآخ مع أقرانه. في هذا الإطار، تعوّل الدولة على المدرسة للوصول إلى تنشئة مدنية وتهيئة أجيال للانخراط في عقد اجتماعي تسمو فيه المواطنة على أي عقيدة.

هنا تكمن الإشكالية: هل العباءة رمز ديني يشمله قانون 15 آذار/ مارس 2004 ومذكراته التوضيحية التي تحظّر الرموز الدينية في المدارس؟ أم مجرد ثوب غير خاضع لأية تأويلات أيديولوجية؟

مصطلح العباءة ليس مألوفاً في الشارع الفرنسي، بدليل تخصيص وسائل الإعلام مساحات توضح ماهية العباءة لتبيان ما إذا كان ارتداؤها فرضاً دينياً أم لا. 

مؤيدو قرار الوزير من شخصيات موالية للحكومة وأحزاب يمينية ويمينية متطرفة وتربويين وأكاديميين، أقروا بأن الإسلام لم يفرض ارتداء العباءة مثلما فرض الحجاب. في المقابل، شددوا على كون العباءة ثوباً ترتديه المحجبات حصراً، إلى جانب انتشاره الواسع في البلدان ذات الثقافة الإسلامية. كما أن صانعات المحتوى المسلمات هن من يروّجن لهذه الموضة في وسائل التواصل الاجتماعي. 

لهذه الأسباب كلها، صنفوا العباءة في خانة الرمز الديني. ولدعم موقفهم، عُرضت لقطات لطالبات يخلعن حجابهن على باب مدارسهن مرتديات العباءة.  استندوا كذلك إلى مذكرة صادرة في 18 أيار/ مايو 2004، توضح الإجراءات التطبيقية لقانون حظر الرموز الدينية، مذكرة أبقت من وجهة نظرهم، الباب مفتوحاً على حظر كل ما يتيح تحديد الهوية الدينية للطالب من خلال مظهره الخارجي. 

تداول مؤيدو القرار أيضاً، مذكرة أخرى صادرة عن وزارة التربية، أشارت إلى تزايد ملحوظ في رصد حالات انتهاك العلمانية خلال العام الدراسي 2022/2023 بنسبة 120 في المئة مقارنة بالعام الذي سبقه. أما الكاتب أمين الخاتمي فرأى، خلال مشاركته في برنامج حواري، أنه لو لم تحمل العباءة أبعاداً دينية، لما شهدنا موجة اعتراض من المسلمين داخل فرنسا وخارجها.    

“ابتداء من العام الدراسي المقبل، ستُمنع الطالبات من ارتداء العباءة في المدارس”.

ميزوجينيّة  و”شرطة الملابس”

اعتبر المعترضون، في معظمهم من اليساريين، أن قرار الوزير انتهاك للحريات، وصنفوه في خانة الإسلاموفوبيا. فالنائبة عن حزب “فرنسا الأبية”، كليمانتين أوتان، وصفته بغير الدستوري والمخالف لمبادئ العلمانية وكأننا أمام شرطة ملابس، معتبرة أن “الماكرونية” تسعى الى المزايدة على اليمين المتطرف. 

في تغريدة أخرى، رأت أوتان أن السجال مفتعل من جانب الوزير للتغطية على تقصير الوزارة تجاه النظام التربوي لناحية تحمّل تكاليف المستلزمات المدرسية ورواتب الأساتذة، كما فشلها “الكارثي” في إدارة منصة Parcoursup الخاصة بالطلاب الثانويين الملتحقين بالجامعة. من جهتها، لمحت النائبة عن حزب “البيئة” والناشطة النسوية ساندرين روسو، إلى “ميزوجينية القرار”  في معرض حديثها عن فرض قيود على أجساد الفتيات.  

البعض الآخر ذهب أبعد من ذلك،  إذ إن أستاذ القانون ماتيو توزيل ديفانا أشار، عبر صحيفة “ليبراسيون”، الى أنه ليس من صلاحية وزارة التربية الفصل بين ما هو ديني من عدمه، بخاصة بعد الإعلان الواضح للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في 12 حزيران/ يونيو الفائت، أن العباءة ليست رمزاً دينياً. كلام ديفانا انطوى على اتهام غير مباشر بانتهاك قانون 1905 الذي أرسى علمانية الدولة الفرنسية.   

لكن الحجة الأبرز للمعترضين كانت المقارنة بين العباءة الإسلامية من جهة والفساتين الطويلة الفضفاضة من جهة أخرى، للإشارة إلى صعوبة التمييز بينهما. وزيرة البيئة السابقة سيسل دوفلو نشرت صورة لفستان من تصميم دار أزياء غوتشي، متسائلة ما إذا كان هذا الثوب يشكل انتهاكاً لعلمانية فرنسا.  

اليعاقبة الجدد في فرنسا

الباحث والأستاذ المحاضر في معهد العلوم السياسية في ليون حواس سينيغير، لم يجد في القرار أي مؤامرة تستهدف شريحة من المجتمع الفرنسي بقدر ما هو تعبير عن أزمة داخلية عنوانها العجز عن التعايش مع الآخر. 

سينيغير وهو باحث متخصص في قضايا وشؤون الإسلام داخل فرنسا، أشار في حديث إلى “درج”، الى أن السلطات الفرنسية عاجزة عن ترتيب وتحديد التهديدات والصعوبات التي تعترضها، ما يدفعها إلى إثارة ضجيج من عدم، مشبهاً بعض الشخصيات الرسمية بـ “اليعاقبة الجدد”، في إشارة إلى ميل النخبة الحاكمة الى بسط سلطاتها في النواحي الحياتية كافة على نحو يتّسم بالبيروقراطية والمركزية والتسلّط.   

أكثر ما يزيد الأمور تعقيداً هو الخطوات التطبيقيّة، التي ما زالت مبهمة بعض الشيء، إذ لن يصدر الوزير غابريال آتال قانوناً بهذا الشأن، ذلك يتعدى صلاحياته، إلى جانب مراعاة قانون العام  2004 لهذا الإجراء، بالتالي سيكون آتال عاجزاً عن حظر العباءة في المدارس على نحو شامل وقاطع. 

ينُتظر الآن من آتال إصدار مذكرة إدارية توضيحية بهذا الشأن، لكن المربك في الموضوع أن المذكرة المنتظرة والتي لن ترتقي إلى منزلة القانون لجهة التطبيق الحازم، ستُلزم مديري المدارس بالتعامل مع كل حالة على حدة، ما يعيدنا إلى السؤال المطروح آنفاً: كيف سيفرّق المدير بين العباءة والثوب الطويل؟ 

في فقه “العباءة”

في هذا الصدد، تساءل صحافيون ما إذا كنا سنشهد تمييزاً على أساس المظهر الخارجي: هل ارتداء طالبة من أصول عربية ثوباً طويلاً سيعدّ عباءة فيما ارتداؤه  من قبل طالبة من أصول فرنسية لن يصنَّف في خانة الرمز الديني؟

أنصار آتال سعوا إلى توفير إجابة استناداً إلى اجتهادات قضائية سابقة: كي يُعد الثوب الطويل رمزاً دينياً، على الطالبة ارتداؤه بصورة منتظمة، فيما ارتداؤه بشكل متقطع يسقط عنه أي صبغة دينية. من جهة أخرى، رفض الطالبة التخلي عنه يسمح أيضاً بتصنيفه في خانة الرمز الديني.

بمعنى آخر، سينطلق معيار التعامل مع كل حالة من نظرة الطالبة الى ما ترتديه: هل تختار ثوبها من منطلق عقائدي أم لا؟ ولم يستبعد بعض الصحافيين ازدياد الأمور تعقيداً عند انطلاق العام الدراسي، فدائماً ما يكون الواقع الميداني أكثر تعقيداً، وقد تظهر حالات لم تُبحث مسبقاً، ما سيفرض اجتهادات جديدة. 

بطبيعة الحال، كان هناك إجماع على أن القرار سياسي بالدرجة الأولى، وعليه ذهبت التحليلات إلى ما هو أبعد من السجال حول موقع الإسلام في المجتمع الفرنسي: الرئيس إيمانويل ماكرون رأى في مقابلة مع صحيفة Le Point نُشرت في 23 آب/ أغسطس الفائت، أن حجم التحديات التربوية تفرض عليه اعتبار القطاع التربوي جزءاً من مسؤولياته المباشرة

 فهل يسعى غابريال آتال، الذي تولى الوزارة قبل أقل من شهرين، إلى التمرد على رئيس الجمهورية لتعزيز حضوره السياسي في المرحلة المقبلة؟ لا سيما مع انطلاق معركة خلافة ماكرون ومجاهرة شخصيات عدة بطموحاتها الرئاسية كوزير الداخلية جيرالد دارمانان ورئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب.