fbpx

هل تمنحني احتجاجات السويداء فرصة لتصويب انحيازي للنظام؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتابع ما يجري الآن من تظاهرات في بعض المناطق السورية، محملةً بالحقد على نظام الأسد، وناقمةً على سنوات من عمري، وقفت فيها في صفّ قاتلٍ وهللت لجرائمه من دون وعي مني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما بدأت الثورة في سوريا. حينها كنت تلميذة في إحدى المدارس الإسلامية في الضاحية الجنوبية، وأخبرتنا المعلمة في الصف، خلال نقاش جانبي حول ما يجري في العالم العربي، أن كل الثورات التي تحصل في المنطقة هي مشروعة ومحقة، باستثناء ما يحصل في سوريا، فهو مؤامرة مدبرة من دول غربية، هدفها الوحيد إسقاط بشار الأسد ونظامه، والطعن بظهر المقاومة وتجريدها من سلاحها، وقد صدقتها، لأنها كانت معلمتي، والمعلمة لا تكذب. “يلي عم يصير بسوريا مش ثورة لاء، هيدي مؤامرة وانقلاب عم تعمله أميركا وحلفاؤها ليسقطوا بشار الأسد، لأنو حليف المقاومة وحامي ظهرها، وعم يبعتوا مسلحين وإرهابيين ويدفعولن مصاري لحتى يقولوا أنو الشعب السوري هو لي بدو يسقط النظام”.

لم تكن معلمتي الوحيدة ممن قالوا ذلك، فقد انضم إليها أساتذة ومعلمات وآخرون تباعاً في صفوف مختلفة، في تلقيننا وتنورينا بحقيقة الثورة السورية.

تابعت ما يجري في سوريا عبر قنوات “المقاومة”، وكانت الانتصارات المتتالية هي كل ما تلقيته، فكانت المراسلة تخرج يومياً لتقول: “قام الجيش السوري بتطهير المنطقة الفلانية”، من دون الخوض في التفاصيل. كيف حررها، بمؤازرة من؟ كم عدد الأبرياء الذين سقطوا؟ لم يكن لدي أدنى فكرة عما يحصل.

خلال عامين، كانت وسائل التواصل الاجتماعي، “فيسبوك” تحديداً، قد أصبحت أكثر انتشاراً، وصرت من خلالها أتابع النقاشات الافتراضية التي تدور حول الوضع في سوريا، وقد كان أصدقائي الافتراضيون جميعهم، بمن فيهم بعض السوريين، من مؤيدي النظام وحلفائه، يهللون مع المراسلة بالانتصارات التي حققناها على “داعش” وأخوته. تزامن ذلك أيضاً مع اقتراب المنظمات الإرهابية المسلّحة من الحدود اللبنانية.

كانت قريتي “الهرمل” الواقعة على الحدود بين لبنان وسوريا، من ضحايا هذه المعركة بين النظام ومن هم ضده، وقد عشت شخصياً القلق والخوف مضاعفين، فمن جهةٍ شهدت تلك الفترة على انفجارات متتالية في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث أسكن وعائلتي وأصدقائي، ومن جهةٍ أخرى كانت “الهرمل” تحت مرمى صواريخ المنظمات الإرهابية، التي لم تتوانَ أيضاً عن تفجيرها مرتين، وإسقاط عشرات الشهداء والجرحى. وقد رأيت بأم عيني، تلك الصواريخ تتساقط حيث لا ندري، ليبدأ كل واحدٍ منا رحلته في الاطمئنان على من يعرفهم، والتأكد من أننا لم نخسر فرداً جديداً في هذا المعركة الطويلة.

عشت لسنوات عدة من الحرب السورية مقتنعة بأن بشار الأسد هو الحق، وأن أعداءه فقط هم الإرهابيون والقتلى، وأن كل ما يشاع قوله عن قتل الأبرياء في سوريا هو محض افتراءات وفبركة إعلامية، يريدون بها زعزعة مبادئنا وإقناعنا بحقيقة مختلفة.

“يلي عم يصير بسوريا مش ثورة لاء، هيدي مؤامرة وانقلاب عم تعمله أميركا وحلفاؤها ليسقطوا بشار الأسد، لأنو حليف المقاومة وحامي ظهرها، وعم يبعتوا مسلحين وإرهابيين ويدفعولن مصاري لحتى يقولوا أنو الشعب السوري هو لي بدو يسقط النظام”.

“قال حكيم النصر خسئتم”

أذكر أنني ذات مرةٍ نشرت صورة لبشار الأسد على حسابي على “فيسبوك”، واقفاً صلباً أمام منبره، وقد ذيلت الصورة بهذه العبارة: “قال حكيم النصر خسئتم”، وعلقت عليها بالقول “أحب هذا الرجل”. لتسألني صديقة افتراضية “كيف تحبين قاتلًا؟”. لم أفهم حينها عن أي قتلٍ تتحدث، وهل قتل الإرهابيين عارٌ ينبغي عليَّ الخجل به؟

حذفت التعليق لكي لا أثير جدلاً، وكي لا تتعرض الفتاة لهجومٍ ممن فقدوا في الحرب ضد الإرهاب أصدقاء وأقارب، وعزيت جهلها إلى ما كنت أعتبره حينها تحريضاً مأجوراً ضد الأسد، من دول كبرى لا تريد من خلال إسقاطه سوى إضعاف المقاومة وفسح المجال أمام العدو الإسرائيلي لاحتلال أرضنا.

لم تكن محبتي للأسد افتراضيةً فقط، فقد علقت له أعلى سريري صورةً مشابهة، وصورتين اثنين لجيشه، في إحدى جولاته التي انتصر فيها على الإرهاب، وأعاد من خلالها الأمان الى السوريين. صورٌ اشتريتها في واحدةٍ من زياراتي الى الشام بعد هدوء المعارك فيها، وعودة شبه الحياة فيها إلى ما كانت عليه.

المعارض الأول والثاني وكثيرون

أول معارض سوري عرفته في حياتي، كان سائق سيارة أجرة، أقلنا وشقيقتي وابنة خالتي إلى وجهة لا أذكرها، لكنني أذكر جيداً حديثه عن ابنه الذي اعتقلته قوات النظام السوري، وأعادته فاقد العقل، مبهم الملامح، شبه ميتٍ لكنه يتنفس.

كان الأب يتكلم بحرقة عن ولده، وكنت للمرة الأولى غير قادرة على الدفاع عن بشار الأسد، فالتزمت الصمت تأدباً وحيرةً في آن معاً. هل هذا ما يحدث حقاً في السجون السورية؟

بعد تلك الحادثة، تغيرت نظرتي الوردية نحو الجيش السوري الذي لا يجيد سوى تطهير المناطق وتحريرها، وصارت المنشورات والفيديوات التي يتحدث من خلالها معارضون سوريون عن تجربة المعتقلين لدى النظام تثير حفيظتي وتشعل في داخلي غضباً، سرعان ما كنت أتخطاه، بوضع هذه القصص في خانة التصرفات والأخطاء الفردية التي تحصل في كل جيوش العالم وفي كل الحروب.

في الجامعة، أي بعد ست سنوات من بدء الحرب السورية، التقيت بزميلة سورية، تعيش مع والديها في لبنان منذ طفولتها، لكن عائلتها الكبيرة لا تزال في سوريا. وقد أخبرتني، مع توطد العلاقة بيننا وتحولها من الزمالة إلى الصداقة، عن وجهةِ نظر أخرى: نعم هناك إرهابيون، وهناك مسلحون مرتزقة من دول مختلفة، لكن الأسد ليس ملاكاً  كما كان والده من قبله، وقد قتل الإثنان معاً من الشعب السوري مثلما قتل أولئك، وثمة كثرٌ لا يعودون من المعتقلات، ولا تعرف عائلاتهم عنهم شيئاً، وقد صدقتها، لأنها صديقتي، وصديقتي لا تكذب.

أيقظتني تلك الإضاءة الجديدة على الواقع السوري من غفلة سنوات طويلة، كنت خلالها، مستميتة في الدفاع عن نظام الأسد وشرعيته، ومعارضة لكل معارضة في وجهه. وعرته أمامي من ثوب الملاك الأبله الذي ألبسته إياه بعض القنوات التلفزيونية وحلفاؤه من دول وأحزاب وفصائل، ورأيته، وأخيراً بصورته الحقيقية: المجرم الذي قتل شعبه كي لا يتنحى.

أن تأتي متأخراً…

جاءت هذه الاستفاقة متأخرةً جداً، بحيث لم تعد هناك تظاهرات رافضةٌ للنظام، وأصبحت الحرب ضد الإرهاب في مراحلها الأخيرة. وأصبح الأسد مشغولًا بإصلاح ما دمره من سوريا، عوضاً عن القتل العشوائي لمعارضيه. وقد منحني هامش الوقت بين تلك المرحلة واليوم، المجال لأفهم الحقيقة أكثر، وأسترجع كل المشاهد الوحشية التي شككت في مصداقيتها، كل صور الأشلاء المبعثرة جراء قصفه مناطق معارضيه، كل حكايات من تعرضوا للضرب والتشبيح على يد عساكره، وكل المقاطع المصورة التي كان فيها الجيش السوري يعذب العشرات ويعدمهم ويجبرهم على النطق باسم بشار كإله واحدٍ، إما أن تعبده وإما أن تموت الآن، وفي كثيرٍ منها، كان الضحايا يعترفون بألوهيته خوفاً، من ثم يُقتلون.

لذا، لم يعد لدي ما أقوله للعالم سوى أن بشار الأسد مجرم وقاتل، وبأن سكوت شعبه عنه اليوم ليس دليلًا على رضاهم، بل هو نتاج سنوات طويلة من القتل والتهجير والتعذيب والاعتقالات التي إن خرج منها الفرد، فهو يخرج منها فاقد العقل، مبهم الملامح، شبه ميتٍ لكنه يتنفس.

سوريا العظيمة وليست سوريا بشار الأسد

أتابع المشهد اليوم وأنا مدركة أن عدو السوريين لم يكن الإرهاب فقط، فقبل الثورة وبعدها، كان نظام الأسد عدواً لشعبٍ أراد الحياة والحريةَ معاً، وقد بذل في سبيلها دمه. ولم يتأخر النظام هذه المرة كثيراً قبل أن يكشر عن أنيابه ويظهر للعالم كيف وبأي طريقة استطاع أن يقتل ثورة شعبٍ محق، فقد قام مناصرو حزب البعث بعد ما يقارب الشهر من تجدد الاحتجاجات، على مبادلتها بالرصاص الحي في “السويداء”، معلنين بذلك عودة النظام الى وحشيته المعروفة، وعدم رضوخه مجدداً للأصوات السلمية التي تطالبه بالرحيل، أو على الأقل، بتغيير واقع مملوء بالفساد والهدر والفقر والإجرام.

أتابع ما يجري الآن من تظاهرات في بعض المناطق السورية، محملةً بالحقد على نظام الأسد، وناقمةً على سنوات من عمري، وقفت فيها في صفّ قاتلٍ وهللت لجرائمه من دون وعي مني. أتابع والأكيد أنني أقل وأصغر من أن يكون لي دور في إحداث أي فرقٍ في هذه المعركة الجديدة التي يخوضها جيلٌ جديد من السوريين، ممن عاشوا خلال هذه السنوات كل أشكال الموت والقهر على يده، ويستحقون بما لا شك فيه، وخلافاً لما قالته معلمتي، الفرصة ليثوروا بوجه نظامٍ فاشي، من أصغر عنصر في جيشه وصولًا إلى رئيسه.

أتابع ومع كثيرٍ من الخوف، من أن تتكرر تلك المشاهد الدموية التي لم يخجل للحظة، عناصر الجيش السوري من توثيقها على هواتفهم، ونشرها بقصدٍ، أو تسريبها للعالم، ومن أن يعود شبح الموت إلى هذه البلاد الخيّرة التي لا يليق بها سوى الحياة والحرية. ولكنني، هذه المرة، سأقول ما كان ينبغي علينا قوله منذ أكثر من عشر سنوات: بشار الأسد مجرم وقاتل، ولا يستحق الشعب السوري، وأي شعب في العالم، أن يحكمه رجلٌ كهذا، وأن سوريا كما عرفها العالم من قبل ومن بعد، كما وصفتها مي سكاف قبل رحيلها، هي سوريا العظيمة، وليست سوريا آل الأسد.