fbpx

120 مليون يورو لمحطة تكرير مياه طرابلس… وعشرون عاماً من الانتظار!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعدّ مشروع الصرف الصحي هذا من المشاريع التي لها الأولوية ضمن مبادرة الاتحاد الأوروبي “Horizon 2020” التي تهدف إلى تنظيف البحر الأبيض المتوسط. وفيما كان المشروع يهدف إلى تغطية أحدث طرق معالجة المياه، إلا أن المحطة تقوم بالمعالجة الأولية فقط. لماذا؟ لأنه بعد مرور 20 عاماً من بداية المشروع في عام 2003، لم تتلقّ المحطة الكمية المطلوبة من المياه المبتذلة (60 م3) للعمل على المستويات المتقدمة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ساهم في إعداد التحقيق إبراهيم الغريب

تم انتاج هذا التحقيق بدعم من Journalismfund Europe.

على بعد أمتار قليلة من سوق الخضار المكتظّ في طرابلس، تقع محطة معالجة المياه المبتذلة (wastewater treatment facility)، وهي الأكبر في لبنان وواحدة من أكبر المحطات على حوض البحر المتوسط. من يمرّ بجانبها ويلحظ حجمها والتقنيات المتطورة فيها، يتوقّع أنّ الوضع مثالي ولا تلوّث للمياه في الشمال اللبناني. إنّما هذه المحطة، حتى اليوم، وبعد 14 سنة على استكمالها، تعمل بالحدّ الأدنى وتكتفي بالمعالجة الأولية، التي تتضمن إزالة الأجسام الصلبة والحطام الكبير من مياه الصرف الصحي. لماذا هذه هي الحال على رغم أن تكلفة هذه المنشأة تجاوزت الـ 100 مليون يورو في ثاني أكبر مدن لبنان وأفقرها؟

“نحن ليش عنّا هالاستثمارات الكبيرة يلي صارت إن كانت عبر مساعدات أو قروض أو من تمويل الخزينة من الدولة وبقيت بدون تشغيل وبتولّد مشاكل… عمّرنا المحطة بكلفة نحو 100 مليون يورو إذا مش أكتر وما عملنا شبكة جيدة فهذا يدلّ على سوء التخطيط وعدم تناسق بين بناء الشبكات وبناء المحطات منشان هيك عم يكون في خلل وضلّت معظم الأنهر وشواطئنا ملوّثة أو عم تكون معالجة أولوية”، بحسب وزير البيئة د. ناصر ياسين، في مقابلة لموقع  “درج”.

في النصف الثاني من عام 2019، وقّعت الحكومة اللبنانية والبنك الأوروبي للاستثمار (EIB) عقد تمويل لدعم إنشاء شبكة مياه الصرف الصحي في مدينة طرابلس ومحيطها. 
نتيجةً لاندلاع أزمة سياسية ومالية، عُلّقت مشاريع البنك الأوروبي للاستثمار في لبنان، إذ لم تتم الموافقة على أي مشروع جديد منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019. ولم يُنفَّذ قرض “شبكات مجاري حوض طرابلس الكبرى” الموقع في عام 2019. بينما تظل الهبة المتّفق عليها في المشروع بقيمة 18 مليون يورو متاحة، بحسب ردّ البنك الأوروبي للاستثمار على أسئلة معدّة التحقيق. وبالتالي، فإن “محطة طرابلس اليوم حمت الشط، لكن لم تحمِ البحر”، وفقًا لمجلس الإنماء والإعمار.

تمويل المشروع:

المصدرالمبلغ
تمويل ذاتي10.7 مليون يورو
قرض74 مليون يورو
منحة استثمارية من صندوق مبادرة المرونة الاقتصادية ممولة بمساهمات دول عدة أعضاء في الاتحاد الأوروبي18.3 مليون يورو
مساعدة فنية في إطار محفظة مبادرة المرونة الاقتصادية التي يتولى البنك إدارتها والممولة بواسطة موارد البنك الخاصة4 ملايين يورو

يشمل هذا المشروع 74 مليون يورو كقرض، و18.3 مليون يورو كمنحة استثمارية من صندوق مبادرة المرونة الاقتصادية المموّل من مساهمات دول عدة أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهبة ثانية بقيمة 4 ملايين يورو كمساعدة فنية، على أن تكون مساهمة البنك الأوروبي 92 مليون يورو وكلفة المشروع بكامله 107 ملايين يورو، تغطّي فيه الدولة اللبنانية 10.7 مليون يورو من كلفة المشروع.

بعد اندلاع الأزمة في لبنان، علّق البنك الأوروبي للاستثمار المشروع، وتحديداً القرض المرتبط به، مؤكداً في الوقت نفسه أن الجانب المتعلق بالمنحة لا يزال متاحاً.

يعتبر ياسين أنّ المشكلة الحقيقة تكمن في غياب الإدارة السليمة لقطاع الصرف الصحي، “نحن مش عم نحكي عن أمور عادية، عم نحكي عن قطاع عم يكون تأثيره مباشر على صحة الناس وحياتهم وخاصة بس صارت قضة الكوليرا صيفية الماضية”، بحسب ياسين. أمّا مجلس الإنماء والإعمار، فرأى أنّه “لو ما محطة طرابلس موجودة بأيام الكوليرا، الله بيعلم شو صار“. 

فيما تساءلت الخبيرة والباحثة البيئية د. ياسمين جبلي، “ماذا ننتظر أكثر من أنّه خلال سنة واحدة، صار عنّا Hepatitis A وكوليرا وهي أمراض ناتجة من المياه، waterborne diseases، شو بعدنا ناطرين، 99 في المئة من مياهنا ملوّثة”، مضيفة: “حرام مع كل الأموال التي وصلتنا، قادرين نعمل أحلى محطات تكرير وأهم استراتيجيات لإدارة النفايات“.  

خلفية المشروع

في إطار تعاون البنك الأوروبي للاستثمار مع الدولة اللبنانية الممتدّ منذ العام 1978، باستثمارات بلغت 2.7 مليار يورو في البلاد، تمت الموافقة على قرض بقيمة 100 مليون يورو من البنك الأوروبي لبناء محطة معالجة مياه الصرف الصحي في عام 1997، وبُني على أساسها معمل التكرير والمصب البحري على مساحة 1.6 كم في عرض البحر المتوسط. المشروع بدأ منذ عام 2003 وانتهى عام 2009، إلّا أنّه منذ ذلك الوقت يعمل المعمل بالحدّ الأدنى. 

في عام 2019، وافق البنك على القرض الثاني لاستكمال التوصيلات. بحسب موقع البنك الأوروبي للاستثمار، سيحسّن المشروع خدمات الصرف الصحي لحوالى 900 ألف نسمة من سكان طرابلس. بدأ هذا المشروع منذ أكثر من عشرين عاماً كأولوية ضمن برنامج الحكومة لمكافحة التلوث الساحلي، الذي يهدف إلى تحقيق الامتثال لاتفاقية برشلونة وإعلان جنوة بشأن العقد الثاني للبحر الأبيض المتوسط في 1985.

وفقاً للبنك، يعدّ مشروع الصرف الصحي هذا من المشاريع التي لها الأولوية ضمن مبادرة الاتحاد الأوروبي “Horizon 2020” التي تهدف إلى تنظيف البحر الأبيض المتوسط.

وفيما كان المشروع يهدف إلى تغطية أحدث طرق معالجة المياه، إلا أن المحطة تقوم بالمعالجة الأولية فقط. لماذا؟ لأنه بعد مرور 20 عاماً من بداية المشروع في عام 2003، لم تتلقّ المحطة الكمية المطلوبة من المياه المبتذلة (60 م3) للعمل على المستويات المتقدمة.

حتى اليوم، المحطة لا تستقبل أكثر من 45 م3 من مياه الصرف الصحي. ومع ذلك، بعد الانتهاء من التوصيلات في منطقتي الكورة والقلمون، التي تعثّرت في مراحل سابقة، من المتوقع أن يصل حجم المياه إلى الحد الذي يسمح للمحطة بالعمل بشكل طبيعي، وفقًا لما ذكره البنك الأوروبي للاستثمار.

انقطاع الكهرباء

يوضح البنك الأوروبي للاستثمار أن الوضع يتعقد أكثر فأكثر بسبب انقطاع الكهرباء وتكلفة المولدات الخاصة الباهظة. وفي السياق نفسه، تتساءل جبلي عن قرار إقامة مرفق بهذا الحجم والتكنولوجيا، نظراً الى مشاكل الكهرباء والتمويل.
ومع ذلك، لمواجهة هذا التحدّي، “اتّحد الاتحاد الأوروبي مع اليونيسيف لتمويل عمليات الصيانة في قطاع معالجة مياه الصرف الصحي في السنتين القادمتين بمبلغ يقارب 30 مليون يورو… وقد تم اختبار هذا النموذج بنجاح على سبيل المثال في محطة معالجة مياه الصرف الصحي في زحلة، حيث يعمل مانح آخر بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة للحفاظ على تشغيل المحطة”، وفقًا للبنك الأوروبي للاستثمار.

“الإدارة المفقودة”:

وصف وزير البيئة، د. ناصر ياسين، وضع محطة معالجة مياه الصرف الصحي في طرابلس عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي بـ

“الإدارة المفقودة”، مشككًا في السبب الذي جعل أكبر محطة معالجة مياه صرف صحي في لبنان تعمل فقط بنسبة محدودة من طاقتها، مع أن معظم معداتها لا تزال جديدة. يعزو ياسين ذلك إلى “غياب التخطيط السليم والادارة الرشيدة والمتابعة الجدية منذ عقود والذي أدى الى فشل في كثير من القطاعات حتى عودة الكوليرا. حيث اصبح الكثير من المنشآت البيئية اما مهملة او غير فاعلة او عرضة للتخريب والسرقة”.


في مقابلة لموقع “درج”، تساءلت الخبيرة والباحثة البيئية د. ياسمين جبلي، عن طريقة الإدارة والتخطيط، معتبرةً أنّنا في لبنان “نعمل بالمقلوب، بدل ما نبدأ بالبنية التحتية ونعمل بشكل متوازٍ على بناء المحطة والقيام بالتوصيلات، عملنا العكس، عملنا المحطة ورجعنا نشوف التوصيلات”، واصفةً المحطة اليوم بـ “مركز للطيور”. يوافقها الرأي الخبير البيئي د. منذر حمزة، الذي يسأل: “هل يعقل أن المحطة موجودة وعم تكلف صيانتها مبالغ كتير كبيرة كل سنة وما زال الشاطئ ونهر أبو علي يعوم بالمجارير؟ مش مقبول ننطر سنين لعملية التوصيلات”، طارحاً “علامة استفهام كبيرة على خطة التنفيذ كلها وعلى المتابعة”.

ويشاركهما الرأي أيضاً أحد رئيسَي بلدية طرابلس د. رياض يمق، الذي تحدّث عن رفض أعضاء البلدية آنذاك حجم المشروع، خصوصاً في ظلّ غياب الثقة بنتائج هذه المشاريع الإنمائية والتخوّف من وصول كميّات ضخمة من المياه المبتذلة إلى المدينة من دون معالجتها بالشكل المناسب، وباعتبار أنّ المراقبة في المشاريع السابقة لم تكن فعّالة، خصوصاً مع المتعهّدين الذين حقّقوا مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة طرابلس، وفقًا ليمق. 

من الجدير ذكره، أن مجلس الإنماء والإعمار هو الجهة الحكومية المسؤولة عن تنفيذ مثل هذه المشاريع. يشير المجلس إلى أن بناء هذه المحطة كان ضرورياً نظراً الى الظروف التي تمر بها البلاد. تبلغ تكلفة محطة كهذه اليوم، باستثناء التوصيلات، أكثر من 170 مليون يورو، في حين تم بناؤها مع المصب البحري بنحو 100 مليون يورو (من دون التوصيلات).

في هذا السياق، أكّد كلّ من ياسين وجبلي وحمزة أهمية هذه المحطة والتقنيات المستخدمة فيها، في حال تمّ استثمارها بالشكل الصحيح. الأمر الذي أكّده أيضاً رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، الذي طالب بتأمين التمويل اللازم لاستكمال التوصيلات. وبالتالي ما زالت المياه المبتذلة تُرمى في نهر أبو علي، بحسب ياسين وقمر الدين.

يرى ياسين أنّ “الإدارة في لبنان بإدارة الصرف الصحي هي يلي ناقصتنا، مش المعرفة ولا التقنيات”، وأكّد مع مجلس الإنماء والإعمار أنّ الاتحاد الأوروبي على علم بالوضع الحالي وبما ينقص المحطة.

تلوّث نهر أبو علي

المشكلة في طرابلس معقّدة، فهي ليست مقتصرة على مياه الصرف الصحي فحسب، بل تشمل أيضاً تلوث نهر أبو علي، وتلوث التربة في المناطق المجاورة لمكبّي النفايات، والفقر، وغياب الدولة.

يحتل نهر أبو علي مكانة مهمة في أذهان وقلوب الجيل الأكبر سناً في طرابلس. فقبل أن يتعرض للفيضان في الخمسينات، كان مكاناً للسباحة وشرب الماء النقي والاستفادة من موارده.

مع ذلك، بعد الفيضان، تغيرت ملامح المدينة حيث تم تهميش النهر وإحاطته بالأسمنت، ما جعل الأجيال الحالية تبتعد عنه وتتعامل معه على أنه مجرى للنفايات والمجارير، وفقاً لبكر الصدّيق، رئيس نادي آثار طرابلس، في مقابلة لموقع “درج”. 

الأمر الذي أكّده الخبير البيئي د. منذر حمزة، الذي تحدّث عن القرارات الخاطئة في ما يتعلّق بنهر أبو علي وجرف المباني الأثرية التي كانت على ضفافه واستبدالها بجدار باطون. واستنكر، في مقابلة لـ “درج”، الحديث اليوم عن سقف النهر، الذي بدل أن يكون مكاناً مستقطباً للاستثمارات، باتت على ضفافه أحزمة بؤس ومكب نفايات. 

في هذا السياق، يرى ياسين أنّه لا بدّ من النظر إلى النهر بصورة متكاملة ليس كمنطقة جغرافية فحسب، بل كمكّون أساسي من تاريخ وحاضر ومستقبل المدينة وسكانها وحضارتها.

تشير دراسات أجرتها د. ياسمين جبلي، الى أنّ مياه نهر أبو علي تحتوي على مستويات عالية من المركبات الهيدروكربونية (PAHs) الناتجة من احتراق الوقود والاحتراق المتفرق. وتُظهر تلوثاً كبيراً في النهر، بما في ذلك احتواؤه على مبيدات حشرية مختلفة، منها أنواع مبيدات من المفروض أن تكون ممنوعة في لبنان. وتجاوزت نسبة المبيدات الحدود المسموح بها من الاتحاد الأوروبي في معظم الآبار المحللة.

وبمجرد الانتهاء من التوصيلات، من المتوقع أن يتحسّن عمل محطّة معالجة المياه والحدّ من التلوث الحالي في البحر ونهر أبو علي.

على الرغم من حجمها الضخم والتقنيات المتقدمة التي تضمّها محطّة معالجة مياه طرابلس، الأكبر في البلاد وإحدى أكبر المحطات حول البحر الأبيض المتوسط، إلا أنها لا تزال تعمل بسعة محدودة. مع أكثر من 100 مليون يورو مستثمرة، وبعد مضي عقدين منذ بداية المشروع، لا تزال المحطة قاصرة عن تحقيق الهدف المنشود، وتعمل بالحدّ الأدنى بسبب نقص كمية مياه الصرف الصحي، وعدم اكتمال التوصيلات، والتخطيط غير الفعّال على المدى الطويل.

وكما قال مجلس الإنماء والإعمار، فإن محطة طرابلس اليوم تحمي الشاطئ ولكنها لا تحمي البحر، ما لا يتوافق مع أهداف الاتحاد الأوروبي ولا التطلعات اللبنانية في هذا المجال.