fbpx

تحذير … هذا المقال هو “تريغير وورنينغ” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سأرى مشاهد مزعجة طوال حياتي، ولن أنزعج من عدم وجود تحذير “تريغر وورنينغ”، فلا يوجد أقبح من هذا كله. لا يوجد أقبح من أن يموت الأشخاص قبل أن يحققوا جميع أحلامهم، سواء هنا أو في غزة. حتى أتصالح مع فكرة أنّنا بشر، نستحق أيام عطل، ونستحق ألّا نشاهد الأخبار المزعجة، ونستحق أن نختار أقدارنا وأخبارنا، سأطعم القطط لربما يعيش عصام وأحقق أحلامه ولو قليلاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تغيّر كل شيء بالنسبة إلي، فما حدث كبير. خبر مقتل رفيقنا المصور الصحافي عصام عبدالله بصاروخ إسرائيلي في الجنوب، كبير وصعب. أفكر بأحمد شحادة، الشاب الفلسطيني الذي خسر وطنه وحمل نعش صديقه عصام. 

هل تغيرت شخصية أحمد للأبد، هل سيبقى كما هو؟ أتحدث مع أصدقاء عصام، فلا أعلم من يعطيهم الصبر ليكملوا الطريق. 

أفكر بشقيقتي آية، كيف تواجه هذا كله. محادثاتي مع عصام على “واتسآب” هي عبارة عن: “آية معك؟”، “وين صرتو؟”، “بعدك مع آية؟”. 

إنّها ذكرى انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر هذه الأيام. 

إنها ذكرى الشارع مع عصام، لكن لن يكون الشارع كما هو. انتهى كل شيء هنا، انتهت كل المشاعر، انتهينا نحن. إنّه عام قاسٍ، لربما الكواكب لم تمشِ بدروبنا، وأخذت مسارات أخرى أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم. منذ مقتل عصام، لم يعد الخوف شعوراً. كنت أتصفح “تويتر”، وجدت ذلك الفيديو. حذرني أصدقائي منه، لا تشاهدي فيديو جثة عصام. لكني شاهدته، فقد كان أمامي. 

لم أفكر بشيء سوى أنّ هذا ليس عصام، فعصام مليء بالحياة، هو لا يهدأ، لا يجلس هكذا. يقول لي رباح، إنّ عصام بدأ بتحقيق أحلامه في 2022، هو في بداية عمره، بدأ يرتاح لتوّه. هذه ليست جثة عصام. الأجساد ليست شيئاً. أحلام عصام هي الأشياء. الأجساد أجساد، يمكن أن تسحق، أن تختفي، يمكن أن نفعل بها ما نشاء. الأجساد ليست سوى قطع صلبة، لا تعني شيئاً. 

هل ما زالت روح عصام هنا؟ لا أعلم، لكن هذا ليس عصام، فهو عكس هذا الفيديو. 

استغرق العمل في الميديا الكثير من طاقتي. كنّا في خلاف من نحو عامين حول وضع إشارة “تريغر وورنينغ” التحذيرية على فيديو لمجزرة وقعت بأكراد، فنحن غطّينا وجوه الأشخاص وهذا يكفي. فكرت حينها في أننا أحرار بأن نقرر ما إن كنا نريد مشاهدة الأخبار السلبية قبل أن يبدأ الفيديو. لكن ماذا نفعل حينما تطاردنا الأخبار هذه وتدخل منازلنا وتنتشر فينا ونضطر أن نرى الجثث كأصدقاء لا كأرقام. فهمت لماذا ديانا وحازم لم يكترثا لقوانين “فيسبوك” حقاً. فهمت لماذا أمّي وأبّي يشاهدان الأخبار ولا يشعران بشيء. لربما هم لا يشعرون بالتريغر. أنا لا أشعر به اليوم. لم يضع أحد “تريغر وورنينغ” على فيديو جثة عصام. ولم أشعر بشيء. هي لا تمثل الحالة. ماذا يعني تريغر وورنينغ؟ حياتي أصبحت تريغر. أن أرى صديقي يحمل نعش صديقه ويبكي. هذه الصورة التي جرحتني كثيراً، هذه كانت التريغر، لكنّها ليست سوى الواقع وستبقى في ذاكرتي الى الأبد. لم أعد أخاف من الحرب أو من أي رأي، هناك حزن وكره وغضب، والمشاعر تلعب معي وتفقدني صوابي. 

علّمنا “فيسبوك” أن نضع “تريغر وورنينغ” وألا ننشر صور الجثث، وتعلمنا مهنياً أن نحترم حرمة الميت، ونغطي الوجوه. أمرٌ كافٍ أن نغطي الوجوه. لسنوات ابتعدت عن هذه الصور، وهذه الأخبار، وحينما شعرت بأنّ لا قدرة لي على تحمّل المزيد من المآسي، غادرت هذا العالم لأجد راحة بالي. تابعني التريغر. هو كان في الخبر، لم يكن في فيديو الجثة. الخبر وحده كان كل شيء. اتصلت بآية بلحظتها، أخبرتها بـ”أن الصحافي اللي مات عصام”. كان لا بدّ أن أقول لها، “تريغر وورنينغ إسرائيل قتلت رفيقك”. ماذا يفعل العالم المتطور مع هذه الأخبار، كيف يتلقاها وكيف ينشرها. هل من شخص أبيض يعلّمني كيف أتعامل مع خبر مقتل صديقي على يد إسرائيل؟ هل كان لا بدّ أن يُقتل صديقنا لنحدد موقف واضح تجاه الحرب وتجاه إسرائيل؟ هل ترضي مواقفنا الآن العالم المتطور؟ 

أشعر بأنّني طفل صغير، لا يملك شيئاً، ولا يحمل دافعاً. طفل كُسرت عزيمته وأصبح لا يكترث للتريغر والراحة. انتبهوا عحالكن. جملة لا تنفع بشيء. أصبحت طفلاً صغيراً لا يفكر بخطر. عدت الى حرب تموز حينما كنت في العاشرة من عمري. في أحد الأيام، عدت الى منزلنا في الضاحية. كان هذا المنزل في مبنى القطاع لـ”حزب الله”. أخذتني أمّي خلسةً “لتشطف” البيت، فرحت وجلست على الكومبيوتر ألعب Worms 3D، ولم أخف. حتى أمّي تصبح طفلة في الحرب. فقد كُسر خاطرها ولم يبق لها شيء سوى أن تنظف البيت حتى نعود إليه نظيفاً حينما تنتهي الحرب. كل هذه الكلمات التي آمنت بها وكل هذه الأفكار هي لا شيء اليوم. خبر عصام كبير جداً، ولا توجد من بعده طاقة لاستيعاب أي guideline أو أي شعور بالخطر والخوف. يحذروننا من الحرب، بتُ أشاهد الأخبار ولا أكترث، هل سيحدث أكبر مما حدث. 

توقفت أحلامي منذ يوم الجمعة. لكن شقيقتي آية، تقول لي إنّها ترى وجه عصام حينما تغمض عينيها. أخاف ألّا يعيش عصام. اشتريت أكلاً للقطط وأصبحت أطعم كل قطة أمامي، لربما هكذا يعيش عصام. تحذير، طعام القطط أصبح “تريغر وورنينغ”. ما عدت أؤمن بأنّ المشاهد الحساسة مهمة، أعتقد أنّها مهمة للذين يعيشون في الجانب الآخر من العالم، حيث لا يموت الأصدقاء فجأة، وحيث لا يرون جثتهم على “تويتر”. ما عدت أؤمن بأحلامي وأحلام أصدقائي أو بالمستقبل أو بالمهنية أو بصحتي النفسية أو يوم الراحة للاهتمام بـ”المنتال هيلث”. أعطوني يوم عطلة في العمل لأهتم بصحتي العقلية، حتى هذه الصحة هراء. ما هي الصحة العقلية في هذا الجانب من العالم، حيث يُقتل أصدقاؤنا ويحمل أحمد نعش عصام؟! كل هذه الكلمات الكبيرة والـconcepts والاستراتيجيات، ما فائدتها؟ لماذا نحن هنا؟ لربما هذا جزء من العزاء، أن نشعر بالهزيمة وكأنّنا أطفال كُسر خاطرهم. لكن هذه الهزيمة هي أنا اليوم، جاهزة لكل شيء، ولا أكترث. سأرى مشاهد مزعجة طوال حياتي، ولن أنزعج من عدم وجود “تريغر وورنينغ”، فلا يوجد أقبح من هذا كله. لا يوجد أقبح من أن يموت الأشخاص قبل أن يحققوا جميع أحلامهم، سواء هنا أو في غزة. حتى أتصالح مع فكرة أنّنا بشر، نستحق أيام عطل، ونستحق ألّا نشاهد الأخبار المزعجة، ونستحق أن نختار أقدارنا وأخبارنا، سأطعم القطط لربما يعيش عصام وأحقق أحلامه ولو قليلاً. 

إقرأوا أيضاً: