fbpx

القتل على الموبايل في السودان: جرائم عائليّة ضد فتيات دارفور بسبب امتلاك “هاتف”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يوثّق هذا التحقيق قصصاً لعشرات الفتيات في إقليم دارفور (السودان) اللواتي تعرّضن للقتل أو التعذيب أو الضرب، من أسرهن أو أقربائهن أو أشخاص من القبيلة نفسها، بسبب العثور على هواتف في حوزتهن، وإفلات الجناة من العقوبة بمساعدة زعماء الإدارة الأهلية، أو أُسر الضحايا، بحجّة أن الجاني فرد من الأسرة. أعدت التحقيق الصحفية سلمى عبد العزيز

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تركض نورا (اسم مستعار) حافية القدمين هرباً من القتل على يد أشقائها بسبب “هاتف” في حوزتها. مسافة خمس ساعات على الأقدام قطعتها الفتاة تاركة منزلها في وحدة “أم تجوك” الإدارية، حتى محلية “كرينك” (على بعد 60 كيلومتراً) بولاية غرب دارفور، حيث تمكث الآن في منزل “الفرشة”؛ أي زعيم القبيلة، ويُسمى أيضاً بـ “الشيخ”، و”العمدة”، و”الناظر”، بعدما جاءته “نورا” طلباً للحماية.

تذكُر نورا جيداً ما حدث معها: “في تمام السادسة صباحاً، هجم عليّ أشقّائي وبيد أحدهم سلاح كان يعتزم قتلي به، بسبب هاتف وجدوه معي. ولولا تدخّل أحد الجيران لكنت الآن في عداد الموتى”.

هذه ليست المرة الأولى التي تُواجه فيها نورا الموت، ففي عام 2022، انهال عليها شقيقاها ضرباً وتركاها تنزف من الواحدة بعد منتصف الليل حتى شروق الشمس، مخلّفين جروحاً عميقة في جسدها، وجرحاً أعمق في روحها، للسبب ذاته؛ “هاتف” اشترته لها والدتها. تروي نورا ما حدث، وهي تُشير إلى آثار الجروح في يدها قائلة: “لم يتدخّل أحد لإنقاذي، كانت الدماء الغزيرة تسيل من يدي، وفي الصباح أخذتني أمي إلى المستشفى حيث مكثت سبعة أيام”.

في مدينة الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور)، كان لا بدّ من إعداد خطة محكمة لإخراج فتاة من منزلها، وذلك بسبب محبسها الإجباري الذي يفرضه عليها شقيقها منذ عامين. بمساعدة والدتها، التقينا الفتاة ذات الثالثة والعشرين عاماً، للحديث عن سبب حبسها، فقالت: “عام 2020، وجدني شقيقي أتحدّث عبر الهاتف مع صديقتي، فضربني مسبباً لي جروحاً عميقة في الرأس، ونُقلت إلى المستشفى حيث مكثت ثلاثة أيام”.

 لم تنتهِ مأساة الفتاة هُنا، بل بدأت مرحلة أُخرى من المعاناة. فعقب عودتها من المستشفى إلى المنزل، فرض عليها شقيقها حِصاراً مُحكماً مُنعت على إثره من الخروج من المنزل لعامين متتاليين. تحكي الفتاة معاناتها بالقول: “شاهد جميع أفراد أُسرتي ما فعله شقيقي، لكنهم لم يوقفوه ولم يمنعوا تعذيبه لي، ولم يتدخل أحد طوال العامين الماضيين… لم يفعلوا شيئاً”.

غياب الإحصاءات الدقيقة والخوف من العار  

 تُعدّ “نورا” محظوظة مقارنة بعشرات الفتيات اللاتي قتلتهن أسرهن لامتلاكهن “هاتفاً” في إقليم دارفور. ووفقاً لرئيسة منظمة “المستقبل للتنمية والاستنارة”، الناشطة الحقوقية نهلة يوسف، فإن 11 فتاة قُتلن خلال عام 2022 من أُسرهن أو أقربائهن أو أشخاص من القبيلة نفسها، “لضبطهن” يتحدثهن عبر الهاتف فقط، بحسب إحصاء موثّق رصدته المنظمة وفقاً لرئيستها.

لكنّ يوسف تُرجح وقوع أكثر من 80 جريمة قتل في عام 2020، لم يتمّ توثيقها، الى السبب ذاته، مشيرة إلى عدم وجود إحصاء دقيق لهذا النوع من الجرائم؛ لصعوبة الوصول إلى النساء في القُرى النائية، حيث تُرتكب بحقهنّ انتهاكات لا يعلم بها أحد.

تُرجِع يوسف أسباب قتل أو تعذيب الفتيات بسبب التحدث عبر الهاتف أو امتلاكه؛ إلى “التسلط الذكوري” والاعتقاد السائد بأن النساء “ملكية خاصة” لا يمتلكن حُرية التصرف. ووفقاً للناشطة الحقوقية، فإن القتل لمجرد التحدث عبر الهاتف ظاهرة دخيلة على مجتمع دارفور؛ تتطلب -لخطورتها- الدراسة العلمية والتحليل، على الرغم من الأنماط المتزايدة والمتجددة للعنف ضد النساء والفتيات، بالإضافة إلى الخلل الكبير في قانون “استراتيجية العمل الطوعي في السُّودان”.

وترى يوسف أن ضعف المؤسسات الحكومية المعنية بحقوق المرأة -وفي مقدمها وزارة الرعاية الاجتماعية الاتحادية- وعدم القيام بمهامها الأساسية، بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعها نظام الرئيس السابق عمر البشير، ساهما في تزايد الانتهاكات ضد النساء في السُّودان.

وتُتابع يوسف قائلة: “لو أن وزارات التنمية الاجتماعية تبنت قوانين رادعة تُجرم العنف المبني على النوع، لن يقتل أيُّ أب أو أخ أو أيّ فرد من الأسرة، ابنته أو شقيقته أو زوجته، لأنها تتحدث على الهاتف فقط”.

ويذهب الباحث المجتمعي، محجوب صديق منصور، إلى أن “الخوف من العار” هو دافع الأسر الى قتل الفتيات بسبب التحدث أو امتلاك “هاتف”، للاعتقاد بأن الفتاة تتحدث من خلاله مع رجال ليسوا من العائلة، بل وصل الظن إلى أن امتلاك واحدة منهن هاتفاً، يعني اشتراك الأُخريات اللصيقات بها في “الجُرم”.

يتابع منصور: “تنهال الأُسرة بالضرب الوحشي على الفتيات حال العثور على هواتف في حوزتهن، الأمر الذي قد يقود إلى الموت ضرباً، لأنهم يخشون فقط أن يُقال إن العائلة التي تنتمي إليها الفتاة غير منضبطة ولا راعي لها”.

تباطؤ الإدارة الأهلية في تسليم الجناة للشرطة

في السابع من حزيران/ يونيو 2022، شهدت قرية “حرك” الواقعة جنوب شرقي محلية “أبو عجورة” بولاية جنوب دارفور، مقتل خمس فتيات على يد عشرة رجال من القبيلة؛ تنفيذاً لتوجيهات “الشيخ” الذي قال لهم “خذوهن وأدبوهن”. مُعدة التحقيق حصلت على محضر تحقيق أصدرته الإدارة العامة للمرأة والطفل بولاية جنوب دارفور، يوثّق تلك الحادثة.

يفيد محضر التحقيق بأن قتل الفتيات الخمس وتعذيبهن، كانا بسبب اتصال هاتفي بين شاب وإحدى الضحايا، التي أقرت -وبعد الضغط عليها- بأن أربع فتيات أخريات من القرية نفسها، قُمن بعلاقات “غير شرعية” مع شباب من قبائل أخرى، ليتمّ ضربهن في منزل الشيخ ومن ثَمّ اقتيادهن إلى خارج القرية وربطهن وتركهن في الشمس حتى المساء؛ ما أدى إلى موت أربع منهن في الحال، في حين لفظت الخامسة أنفاسها الأخيرة في الطريق إلى المستشفى.

في قسم شرطة “أبو عجورة”، أدلت “سراً” والدة إحدى الضحايا، خوفاً من إلحاق الضرر بها، بمعلومات ساعدت الشرطة في القبض على عشرة متّهمين، وإيداعهم سجن “كوبر” في مدينة “نيالا”.

تقول رئيسة منصة نساء دارفور الشاملة، ماجدة حسن علي، إن الإدارة الأهليّة، تتباطأ في تسليم الجُناة للشرطة: “جميع الجُناة في قضية مقتل الفتيات الخمس من أُسرة واحدة، فلو أن الإدارة الأهليّة أرادت تسليمهم لفعلت، إلا أن ستة منهم تمكنوا من الهرب”. وأضافت علي أن الإدارة الأهليّة عرضت لاحقاً التَّسوية؛ أي شطب البلاغ بالتراضي والتنازل عن الدية، على رغم أن التنازل عن القصاص لا يعني إسقاط الحق العام.

   ما هي  الإدارة الأهلية: إدارة زعماء القبائل لشؤون المناطق التابعة لها، التي تتمتع بصلاحيات وسلطات واسعة؛ فكلمة الناظر أو العمدة أو الشيخ تُعدّ حكماً نهائياً نافذاً على أفراد القبيلة جميعاً، من خلال قواعد العرف والعادات والتقاليد المُتبعة.

“بأي ذنب قُتلت”

بحزن بالغ، تقصّ ماجدة حسن علي، تفاصيل جريمة مقتل فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب هاتف وجدوه في حوزتها. تقول رئيسة منصة نساء دارفور الشاملة: “المؤسف أن الهاتف الذي وجدته أسرتها معها خالٍ من شريحة المكالمات والبطارية، ومع ذلك اتهموها باستخدامه للتحدث مع رجال، فربطوها بحصان وضربوها بوحشية إلى أن فارقت الحياة”.

تشير علي الى أن هُناك جرائم أُخرى مماثلة وقعت في ولاية شرق دارفور، والقاسم المشترك بينها جميعاً هو إفلات الجناة من العقاب؛ ما دفعها -وكتل نسائية أُخرى- في شباط/ فبراير 2023، إلى تنظيم وقفة احتجاجية أمام مجمع محاكم وسط مدينة “نيالا”، حملت عنوان “بأيّ ذنب قُتلت”،  تطالب بعدم إفلات الجناة من العقاب بمساعدة الإدارة الأهليّة وأُسر الضحايا، وإيقاف ما يعرف بـ “التَّسوية” في جرائم القتل.

“الجميع يعلم بما يحدث، لكن لا أحد يجرؤ على إبلاغ الشرطة”، هذا ما يقوله آدم أبكّر (اسم مستعار) الذي أمضى عمره في مدينة “نيالا” عاصمة ولاية جنوب دارفور. يروي الرجل (69 سنة) حادثة قتل فتاتين إحداهما في عداد الأطفال: “عمرها أقل من 15 سنة، طلبها أحدهم للزواج ورُفض، وجدها شقيقها تتحدث عبر الهاتف فظن أنها تتحدث مع مَن رفضته الأسرة، فخنقها حتى الموت، وعلى الرغم من أن الجميع يعلم بما حدث، لم يجرؤ أحد على إبلاغ الشرطة”. 

أما عن الحالة الثانية التي شهدها “أبكّر”، فيلفت: “فتاة وجدها شقيقها وابن عمها تتحدث عبر الهاتف في الوادي (منطقة خالية من السُكان)، فتناوبا على ضربها طوال الطريق إلى المنزل، وفور خروج والدتها إلى السوق، شنقاها وزعما أنها انتحرت”.

الجُناة يتمتعون بالأعراف

حصلت مُعدّة التحقيق على مذكرة أصدرتها الإدارة العامة للمرأة والطفل في وزارة الشؤون الاجتماعية بولاية جنوب دارفور، مُوقَّعة من المديرة العامة للإدارة سارة مصطفى موسى؛  تطالب والي الولاية (آنذاك) حامد التجاني هنون، بمخاطبة الأجهزة العدلية (النيابة العامة والجهاز القضائي) بعدم تسوية جرائم قتل النساء والفتيات خارج الإطار القانوني (المحاكم)، إضافة إلى تمكين وزارة الشؤون الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل، مُمثَّلة في الإدارة العامة للمرأة والأسرة، من الإشراف ومتابعة إجراءات محاكمة مرتكبي الجريمة لمنع التّسويات الخارجية. 

جاء في المذكرة أيضاً، إصدار وزارة الشؤون الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل (الاتحادية)، في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قراراً (رقمه ع/ع م/50/1) خاصاً بتوفير الحماية والوقاية للنساء والفتيات من أحداث العنف والانتهاكات، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر، ومقاضاة منتهكي حقوق المرأة، وتحجيم العنف الموجه ضد المرأة في المحليات، ومناصرة محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، والتقليل من حدة العنف القائم على النساء.

 وتضمنت المذكرة أيضاً، خطة وطنية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 325 حول المرأة والسلام والأمن، الذي أجازته الحكومة الانتقالية في السُّودان في العاشر من حزيران/ يونيو 2020. ويُشدّد القرار الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته (4213) التي عقدت في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2000، على مسؤولية الدول المُوقِّعة، ومن بينها السودان، عن وضع نهاية للإفلات من العقاب، ومقاضاة المسؤولين عن الجرائم التي تتعرض لها النساء والفتيات، من عنف جنسي وغيره من أشكال العنف، مع تأكيد ضرورة استثناء تلك الجرائم من أحكام العفو والتشريعات ذات الصلة.

إلاّ أن ذلك كُله لم يُحِل مرتكبي جرائم قتل النساء والفتيات في دارفور إلى المحاكمة. ووفقاً لمديرة الإدارة العامة للمرأة والطفل بوزارة التنمية الاجتماعية بولاية جنوب دارفور، سارة مصطفى موسى، لم يتمّ القبض على أيّ من مرتكبي جرائم قتل النساء والفتيات في دارفور، خلال السنوات الماضية؛ عدا ستة متهمين بقتل خمس فتيات من قرية “أبو عجورة”، كانوا محتجزين في سجن كوبر، بمدينة نيالا.

وتشير موسى إلى أن الأجهزة العدلية والشرطية توقفت عن العمل، وأُخرج جميع السجناء في سجون مدينة نيالا، بمن فيهم المتهمون الستة، وذلك عقب اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، وانتقالها إلى ولايات دارفور في 23 نيسان/ أبريل 2023. وهذا ما أكده أيضاً والي ولاية جنوب دارفور، بشير مرسال حسب الله، مؤكداً تأثير ما حدث على إجراءات المحاكمة؛ ما أدى إلى إفلات الجناة من العقاب.

وأقرّ حسب الله بوقوع اعتداءات على الفتيات بمحلية السلام بولاية جنوب دارفور، وبوجود تحديات تحول دون تحقيق العدالة، قائلاً: “إن تدخل بعض الإدارات الأهليّة في مجريات بعض القضايا الكبيرة، وتسويتها خارج نطاق القانون تحت مسمى العرف، يقطع الطريق أمام تحقيق العدالة”. 

ويُقصد بـ “العرف” مجموعة العادات والتقاليد المتعارف عليها في بيئة معينة، وأصبحت بمثابة الشرع أو القانون في الأهمية والاحترام، وهي من صنع الجماعة.

قرار على ورق 

وبمساءلة المديرة العامة لوزارة الشؤون الاجتماعية بولاية جنوب دارفور سابقاً، أسينات علي آدم -التي تولت المنصب خلال صدور القرار الوزاري الخاص بتوفير الحماية للنساء من العنف ومحاكمة المتهمين- عن عدم تنفيذ القرار وإخفاقه في الحد من تزايد جرائم قتل أو تعذيب الفتيات من أُسرهن، بسبب تحدثهن أو امتلاكهن هاتفاً، أجابت بأنهم دائماً ما كانوا يصطدمون بتنازل أُسر الضحايا عن الحق الخاص (القصاص)؛ وهذه أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تزايد جرائم قتل الفتيات، إضافة إلى “ضعف الأحكام” الصادرة بحق الجناة.

ووفقاً لآدم، فإن الحكومة هناك شكلت تحدّياً كبيراً آخر، وقف عائقاً أمام تنفيذ القرار، تمثّل في ضعف الموارد المادية، وعدم وجود وسائل نقل كافية لوحدة العنف ضد المرأة، المعنية بتنفيذ القرار الوزاري الخاص بتوفير الحماية للنساء من العنف؛ الأمر الذي منعها من الوصول إلى الضحايا في القرى النائية، وعدم وجود مكاتب لمباشرة أعمالها. وتتابع آدم: “يجلس الموظفون بوحدة العنف ضد المرأة تحت الأشجار، وأُضطرّ في بعض الأحيان إلى إخلاء مكتبي عندما يكون لديهم عمل يتطلب السرية”.

تشير آدم إلى أنه عادة ما يُقابل طلبها بتوفير سيارة أو أيّ متطلبات لوجستية أخرى؛ لمتابعة الانتهاكات التي تُرتكب ضد النساء في المحليات، بأن الأولوية للأمن، مضيفة: “تتراكم خطاباتنا على أدراج مكاتب حكومة الولاية من دون استجابة، للأسف وحدة حماية العنف ضد المرأة صوريّة فقط”.

خلل القوانين 

“الخلل في قوانين السُّودان”، هكذا يُشخّص رئيس هيئة محامي دارفور، صالح محمود، أساس المشكلة، ويتابع قائلاً: “واحد من أهم مطالب الثورة السُّودانية عام 2018، هو مراجعة القوانين، بخاصة قانون الإجراءات الجنائية وقانون الأُسرة وما يُسمى بقانون الأحوال الشخصية، وإجراء إصلاحات جوهرية وبنائية في مؤسسات تطبيق العدالة في السودان، وفي مقدمها المحاكم والنيابة العامة”.

ويُشير محمود إلى أن حكومة الرئيس السابق عمر البشير، ورئيس الوزراء السابق -في الفترة الانتقالية- الدكتور عبد الله حمدوك، رفضا إجراء أو معالجة القوانين على رغم ضرورتها، حتى بعد إحالة السودان من “مجلس حقوق الإنسان”، من البند الرابع إلى البند العاشر، الذي يُتيح للحكومة السُّودانية الاستفادة من المجلس في ما يتعلق بالمساعدات الفنية، لإجراء إصلاحات في القوانين؛ لكنّ ذلك لم يتمّ، وبالتالي تظل هُناك حاجة ماسة إلى إجراء إصلاحات في القوانين السودانيّة عموماً.

ويؤكد محمود أن ضعف القوانين الخاصة بملاحقة الجناة، الذين ارتكبوا جرائم متعلقة بانتهاك حقوق النساء، وإفلاتهم من العقاب، وعدم المساءلة، يرجع إلى “المناخ” المتفشّي في السُّودان خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، وفق تعبيره.

الإدارة الأهلية ترفض تحمُّل المسؤولية

كان لا بدّ من مواجهة الإدارة الأهلية بكل ما توصلنا إليه خلال التحقيق، لكنّ عضو الإدارة الأهلية بولاية شرق دارفور، بمدينة الضعين، العمدة إيدام أبو بكر إسماعيل، ألقى باللوم على (الجودية) -ويُقصد بها الإشراف على تسوية الخلافات بين أفراد المجتمع على مختلف مستوياته، في إطار مؤسسات محلية، من دون اللجوء إلى محاكم الدولة- كونها ساهمت في إفلات الجناة من العقاب، على حد قوله. يقول إسماعيل: “لذلك رأت الإدارية الأهلية دفع الدية بموافقة الطرفين، وفق العرف الأهلي”.

لكنّه عاد ليحمّل الأجهزة الشرطية جزءاً كبيراً من المسؤولية؛ لعدم قدرتها على الاحتفاظ بالمتهمين عقب إلقاء القبض عليهم، بسبب ضعف الميزانيات المخصصة لها، وفق تعبيره. 

العمدة يوسف آدم، المعروف بـ “أبو خطاب”، أكد أيضاً وقوع جرائم قتل فتيات بسبب التحدث عبر الهاتف من أُسرهنّ في ولاية شرق دارفور، وبقية الولايات الأُخرى، وعدم محاكمة الجُناة.  لكنّ أبو خطاب يُبرّر اتباع الإدارة الأهلية “الأعراف” في الفصل في جرائم القتل؛ لمنع “فقدان المزيد من الأرواح”، فتُعالج القضية بجلوس الطرفين على الأرض، على رغم علمهم بأن هذه المعالجة قد لا تكون مُنصفة للنّساء.

للإدارة الأهلية السُلطة الأعلى في دارفور، وهي المكون الوحيد في الدولة، الذي أصبح أعلى من الأجهزة الشرطية، بل إنها تصدر في بعض الأحيان التوجيهات للشُرطة، وفق شرطي (فضّل عدم ذكر اسمه) يتبع دائرة الجنايات في شرطة محلية نيالا.

 ويصف الشرطي آلية ما يحدث من تسويات بالقول: “تجلس الإدارة الأهلية مع طرفي البلاغ تحت ظل الأشجار، بعيداً عن أنظار الشُرطة، وتصل معهم إلى تسوية، ثم تأتي بعدها إلى الشرطة وتُطالب بإخراج المتهمين بالكفالة أو الضمانة العادية وحفظ البلاغ أو شطبه؛ ولا تستطيع الشُرطة فعل أيّ شيء بعد ذلك سوى تنفيذ مطلبهم”.

 ووفقاً لرواية الشرطي، فإنه (وحتى الآن) شُطب 11 بلاغاً مدوّناً لدى الشرطة، بتوجيهات من الإدارة الأهلية، لجرائم قتل فتيات بسبب التحدث عبر الهاتف، والمتهمون في هذه البلاغات هم أفراد من الأسرة. أبرز هذه الجرائم وقعت في قرى “بليل”، و”بلبل أبو جازو”، و”بلبل دلال العنقرة”، و”دبة الحمراء”، و”زعيفة”، إضافة إلى معسكرات النازحين المختلفة، بحسب الشرطي.

مصير مجهول

ما زالت نورا تحتمي منذ هروبها في منزل “الفرشة”، حيث قدمت لها زوجته حذاء وثوباً جديدين. بينما تنخرط نورا في مساعدتها بالأعمال المنزلية، ينتابها من حين الى آخر الخوف والقلق من مصيرها المتأرجح بين استحالة العودة إلى بيتها المُشهَر فيه “السلاح” بوجهها، والبقاء “ضيفة” لا تعلم إلى متى، من دون مصدر دخل!