fbpx

الصابئة المندائيون في العراق: “قليلون نعم لكن لن ننتهي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حاولت بعض الفئات تهميشنا لعددنا القليل، ولغرابة طقوسنا كما يشيع البعض، لكنها طقوس كأي طقوس اخرى في العالم فلم الاستغراب؟”… ترفض بلسم، رفضاً قاطعاً، الخروج من العراق مصرة على بقاء هويتها المندائية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“عشت خارج العراق لفترات طويلة في حياتي، إلا أنني لم أجد مكاناً أستطيع فيه إقامة طقوسنا الدينية كما في وطني وأرضي”. 

تبدو حنين (18 سنة) سعيدة للغاية، فيما تتهيأ بثياب بيض تغطيها من أعلى رأسها، للدخول الى مياه نهر دجلة في بغداد، في طقس تراه يساعدها في صفاء روحي تتطلع إليه. وحنين التي أجبرتها ظروف العراق القاسية خلال السنوات الماضية على التنقل ما بين سوريا وتركيا، لم تتمكن يوماً من ممارسة شعائر طائفتها التي تعد من أقدم الديانات. هذه الأيام تحتفل الطائفة المندائية بعيد “البرونايا”، أو عيد الخليقة، وهو أهم أعياد الجماعة، ويستمر لخمسة أيام “بيض” تعد بمثابة يوم واحد متصل، لا فرق بين الليل والنهار فيها. 

العراق الذي يعد بلداً غنياً بفسيفسائه العرقي والاثني يضم مجموعات تمتد جذورها إلى حقبات تاريخية قديمة، لكن الأزمات والحروب والانقسامات الطائفية أثرت فيالكثير من الجماعات التي تضاءل عددها في العراق.

الكاتب والباحث خضر المجراوي، يوضح لـ”درج”، أن عدد الصابئة في العراق كان يتجاوز الـ100 ألف شخص، ليتناقص اليوم ويصبح أقل من 12 ألف شخص فقط. الهجرة المعاكسة التي حصلت بعد عام 2003، والتهميش الذي لحق بالطائفة اجتماعياً وسياسياً، عدا أن طبيعة الدين نفسه لا تحمل بعداً تبشيرياً وبالتالي لا ينضم إليها أحد ولا يسمح لأحد بتركها، ما يجعل الجماعة منضبطة في علاقاتها، “جماعتنا تعود بجذورها لأسلاف آدم، وجاء هذا الترابط بيننا لاهتمامنا الكبير بالشؤون الدينية للجماعة وعدم هجرها على رغم جميع الظروف، حتى في أشد الحروب”. 

يوضح المجراوي، أن النبي سام قام بتثبيت الشرائع المندائية، ليأتي من بعده النبي يحيى بن زكريا -وهو آخر أنبياء الصابئة- فأصدر التعاليم التعميدية، وهو أول من استخدم التعميد لطهارة النفس، ومنه اشتقت راية الدرفش والعلامة الخاصة بهم، والتي تشبه الصليب الى حد ما، وتعتبر رمزاً أساسياً لهم، لأنها راية النبي يحيى، مع اللباس الأبيض، الذي يشترط أن يكون مصنوعاً من القطن الخام..

يتبع المندائيون كتاب “كنزا ربا” أو الكنز الكبير، والذي يحوي بحسبهم صحف آدم الأولى وتعاليمه باللغة الآرامية الشرقية التي تعتبر لغة الصابئة. وهذه الجماعة التي تعد من المكونات الأصلية للمجموعات العرقية والدينية في العراق مهددة على أكثر من صعيد. فقد حذر معهد دراسات الشرق الأوسط الأميركي من أن الجماعة تواجه خطر الانقراض بسبب تعرض الصابئة لعمليات عنف تشمل القتل والسطو والسرقة. 

“نعتبر هذا العيد، من أقدس اعيادنا، إذ تزال الحواجز بين الأحياء والأموات، وأيضاً لأن أعيادنا الأخرى لا يمكن أن نؤدي الطقوس فيها، إلا تحت عباءة ضوء النهار، باستثناء هذا العيد الذي تكون فيه ايامنا الخمس، خارج الزمن”.

صحيح أن تلك الجرائم تراجعت بعد القضاء على تنظيم “داعش”، إلا أن الجماعة لا تزال غير مستقرة. هذه المخاوف دفعت بالكثير من الصابئة المندائيين للنزوح من بغداد ومناطق في الجنوب إلى إقليم كردستان وكركوك. وكانت تقارير حقوقية أشارت إلى أن حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها الصابئة مستمرة منذ عهد صدام حسين الذي أمر بتجفيف الأهوار الجنوبية. هذا الأمر دفع بالصابئة الذين تربطهم علاقة مقدسة بالماء إلى التخلي عن اسلوب حياتهم ومحاولة إيجاد طرق لمغادرة البلاد. واستمرت دوافع الهجرة في مجتمع الصابئة، وحتى بعد سقوط صدام وظهور النفوذ الكبير للميلشيات الموالية لإيران، ثم تنظيم “داعش” الإرهابي، كل هذا دفع الصابئة المندائيون للتناقص نتيجة الهجرة.

يحدثنا رئيس الطائفة المندائية، الشيخ ستار جبار الحلو، عن احتفال عيد الخليقة، او “بنجة” باللغة الفارسية، أي الأيام الخمس المباركة، “نعتبر هذا العيد، من أقدس اعيادنا، إذ تزال الحواجز بين الأحياء والأموات، وأيضاً لأن أعيادنا الأخرى لا يمكن أن نؤدي الطقوس فيها، إلا تحت عباءة ضوء النهار، باستثناء هذا العيد الذي تكون فيه ايامنا الخمس، خارج الزمن”.

أقدم ديانة توحيدية في العراق

ولربما تكون الطائفة المندائية، هي الأقدم في بلاد وادي الرافدين، وذلك لامتداد جذورها حتى أكثر من 2000 عام من أقدم الأديان في العراق، يتحدث لـ”درج”، رئيس مجلس شؤون الطائفة أكرم سلمان، بتفاصيل أكثر عن عيد الخليقة، مبيناً أن الطقوس التي تجرى في هذا العيد: “التعميد الفردي للأشخاص، يكون أكثر قدسية من التعميد الذي يحدث في أيام الآحاد، فيمنع على الشخص الذي يدخل المياه ويتلو صلواته ودعواته، بمباركة رجل دين، بأن يمسه أحد بعد خروجه من المياه، لفترة، وذلك ليسمح لنقاء النهر ان يجدد سريرته وينبت في روحه مجدداً، السلام والمحبة”. 

المياه… حيث كل شيء

يؤكد أكرم سلمان أن الصابئة المندائيين، بنوا حضارتهم وحياتهم قرب الأنهار والاهوار، لاعتبار المياه، مصدراً مهماً في عقيدتهم، ومصدر التطهير المستمر للإنسان، ويتحدث عن اصل مفردة “صابئة”. 

“تعد الكلمة اشتقاقاً من  (صبا)، والتي تعني انغمس أو غطس، فيما تفسر المندائي أو “مندا” بالمعرفة، فيطلق على المندائيين اسم العارفين بدين الحق أو المتعمدين بالمعرفة باللغة الآرامية”.

إقرأوا أيضاً:

طائفة وحيدة

ولم يفضل المندائيون كثيراً، الاختلاط بغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وبذلك تمكنوا من المحافظة على سرية طقوسهم ومعتقداتهم، لكن هذا الأمر بالطبع، ولد لدى مجموعات أخرى، أفكاراً خاطئة عنهم، كما أن تدوين كتبهم المقدسة بلغتهم الآرامية الشرقية وعدم ترجمتها طوال هذه الحقب، كانا سبباً إضافياً، لتؤخذ عنهم أفكار غير صحيحة كما يقولون. يقول أكرم : “الصابئة موحدون، ولا يعبدون سوى الله خالق الأرض، وحده، لكن انعزالهم، وانحسار وجودهم قرب الماء، أثار حولهم الكثير من الشكوك والأسئلة المختلفة، فتعرضوا لنكبات واضطهادات مستمرة، كان نتيجتها، حرق الكثير من مدوناتهم وتاريخهم وإتلافها، فلم يبق الكثير، من ماضي الصابئة المدون. وتشير المخطوطات المتبقية، إلى وجود أكثر من 400 معبد للصابئة، تتوزع على مختلف مدن العراق من العهد الساساني، ليتقلص العدد إلى 170 معبداً فقط”. 

هل سيعودون؟

تعيش عائلة رئيس شؤون الطائفة، جميعها في الغربة، بعيداً من دجلة العراق، فيما يفضل هو، أن يبقى امتداداً لجذور هذه البلاد.

“أحلم بعودة أبنائي إلى موطنهم، ليعيشوا بين ناسهم ويمارسوا طقوسهم، البلدان الأوروبية قدمت لهم الاحتواء، لكنها بلدان عملية وعلمانية، ولا تميل إلى اعتبار الدين جزءاً أساسياً من حياة الانسان، من أجل إجراء مناسبات كهذه، لكن العراق بلد متنوع الأديان، ويمنح كل دين وطائفة، حق ممارسة الشعائر في كل وقت كجزء من الفلكلور الثقافي والشعبي”.

الطائفية القاتلة

تنفي السيدة بلسم المندائي لـ”درج”، خرافات كثيرة طاولت الصابئة طوال عقود وسحبتهم إلى خانة التهميش والعدائية، تسترجع الحكايات وتضحك، مؤكدة، أن الصابئة ليسوا غير نظيفين كما يشاع عنهم، وهم الذين أمضوا 2000 سنة مع الماء. وترى أن المندائيين، عاشوا بسلام مع جميع الطوائف الأخرى، قبل رحلة الهجرة الأخيرة، والتي كانت- بحسب رؤيتها- قد حصلت، لأسباب اجتماعية أكثر من كونها دينية، تكمل “التهجير الذي لحق بنا بعد عام 2003، كان سببه الانفلات الأمني الذي أثر في مختلف الظروف مجتمعة، وتمكن بعضهم من تغذية نفسهم الطائفي، واستغلاله لترهيبنا، إضافة إلى حوادث سرقة محال صاغة الذهب المستمرة، وذلك لأن غالبية الصابئة هم تجار ذهب، ونعم حاولت بعض الفئات تهميشنا لعددنا القليل، ولغرابة طقوسنا كما يشيع البعض، لكنها طقوس كأي طقوس اخرى في العالم فلم الاستغراب؟”.

“أحلم بعودة أبنائي إلى موطنهم، ليعيشوا بين ناسهم ويمارسوا طقوسهم، البلدان الأوروبية قدمت لهم الاحتواء، لكنها بلدان عملية وعلمانية، ولا تميل إلى اعتبار الدين جزءاً أساسياً من حياة الانسان”

وترفض بلسم، رفضاً قاطعاً، الخروج من العراق، مصرة على بقاء هويتها المندائية في أرض أجدادها، لكنها لا تستطيع التحكم بمصير أبنائها، إذا ما فضلوا الهجرة، “أحياناً، تتعرض ابنتي في الجامعة، لبعض المضايقات، كأن يطلبوا منها اعتناق الإسلام، أو ارتداء الحجاب، وهذا الأمر يزعجها، لأننا في الحقيقة لا نطلب من احد تغيير دينه، إننا مجتمع مسالم ومحب للسلام، ولجميع الأديان الأخرى”. 

وتشعر بلسم أحياناً بأنها وعلى رغم مكانتها المرموقة في أحد المصارف الحكومية، إلا أن هناك من يستكثر مركزها، ويفضل أن يزيحها، لتعيين شخص أقل كفاءة منها، لكنه من دين “ذي اكثرية”، وعلى رغم هذا كله، تنفي مجدداً، فكرة الهجرة، مؤكدة “لقد عشت مع مجتمع كامل أحبني بمختلف طوائفه، وتناولت الطعام في منازل لأبناء ديانات أخرى، هذه التفاصيل تقف بعيني ولن أسمح لعنصريين أو منغلقين طائفيين، أن يجعلوني أفكر بترك مكاني، لقد حارب الطائفيون، جميع الديانات في العراق، حتى المسلمون لم يسلموا منهم، العراق هو منبع الصابئة المندائيين، خروجي يعني مساهمتي بانقراض طائفتي من موطنها الأصلي، إننا قليلون نعم، لكننا لن ننتهي”. 

إقرأوا أيضاً: