fbpx

“رفدوني لأنني من هناك”…
أحياء تونس الشعبية قنابل بؤس موقوتة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“التفاصيل الموجعة هي يومياتنا نحن شباب هذه الأحياء المنسية، نعيش كل صنوف الظلم في دولة تشيد من أجلنا السجون وتضعنا على رأس خططها الأمنية ولكنها لا تضعنا أبداً ضمن برامجها التنموية”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لا شيء يتغير في جحيم أيامنا، حتى الثورة التي دفعنا من أجلها خيرة شبابنا لم تنصفنا. عشر سنوات مرت ولا شيء تغير سوى اندثار كل الانتظارات يوماً بعد آخر…”.

يختصر حاتم نجاحي (36 سنة)، وهو من سكان حي التضامن الشعبي، المرارة التي يعيشها وآلاف الشباب في واحد من أشهر الأحياء الشعبية التونسية، والتي أصبحت وقود الاحتجاجات ضد السلطة، بخاصة في السنوات الأخيرة. في هذه الأحياء، تظهر ملامح الغضب من سلطة تترفع عن الالتفات إلى هذه المناطق، وتراها مجرد عناوين للبؤس والإجرام، من دون أن تحاول الاقتراب منها أو الوقوف على حقيقة المعاناة التي يعيشها هؤلاء، الذين يرون أنفسهم هدفاً يقصده السياسيون خلال مواسم الانتخابات حصراً. “بعدما كانوا يشترون ودنا لقيمتنا الانتخابية نصبح في نظرهم مجرمين ومنحرفين وغيرها من النعوت ونجر جماعياً إلى السجون لمجرد أننا انتفضنا”، يقول حاتم.

منذ بداية الستينات، بدأت تنتشر الأحياء الشعبية في ضواحي العاصمة تونس على غرار أحياء التضامن ودوار هيشر والملاسين وسيدي حسين وجبل جلود والكبارية… تتقاسم جميعها الأوضاع الاجتماعية الصعبة ذاتها، من فقر وبطالة وتفشٍ للعنف والجريمة، فضلاً عن الفوضى العمرانية والكثافة السكانية الكبيرة. وتضم هذه الأحياء فئات اجتماعية متنوعة ومختلفة، أغلبها من النازحين من المحافظات الداخلية للبلاد الذين أتوا بحثاً عن مورد رزق لم يجدوه في محافظاتهم المنسية. 

ويعد حي التضامن، الذي يبتعد نحو 6 كيلومترات من العاصمة التونسية والتابع لمحافظة أريانة، أكثر الأحياء الشعبية كثافة وتنوعاً وأهمية وأيضاً الأكثر استقطابا لنشاط الأحزاب التونسية مع كل حملة انتخابية. 

لا تتجاوز مساحة حي التضامن 5 كيلومترات مربعة يسكنها نحو 200 ألف نسمة، في مساكن متراصة مع كثافة سكانية عالية، تضم الكثير من المفقرين والعاطلين من العمل والمهمشين. 

أكدت دراسة أجريت منذ ثلاث سنوات أن نسبة الفقر في هذا الحي المتاخم للعاصمة تتجاوز 70 في المئة، فيما تتعدى نسبة البطالة 60 في المئة وأن الدخل الشهري لآلاف العائلات لا يفوق المئتي دينار (نحو 75 دولاراً)، علما أن مؤشرات الفقر والبطالة ارتفعت في السنوات الأخيرة، بخاصة بعد جائحة “كورونا”، ما يرجح فرضية ارتفاع هذه النسب. يليه حي دوار هيشر التابع لمحافظة منوبة والذي يبعد من العاصمة قرابة 4 كلم، ويواجه هو الآخر مأساة حي التضامن ذاتها. ففي دراسة حديثة أعدتها منظمة “الارت انترناشونال” حول واقع الخدمات التعليمية في المرحلة الثانوية في هذا الحي، كانت أجريت في ثلاثة معاهد داخله، تبين أن أكثر من 95 في المئة من التلاميذ في دوار هيشر يتعاطون المخدرات. وصرح 76.1 في المئة من التلاميذ بأنهم  قاموا باستهلاك المخدرات داخل المعهد في حين صرح 95.5  بالمئة منهم  أنهم  قاموا باستهلاك المخدرات أمام المعهد. كما بينت أن عدداً كبيراً من التلاميذ يتعرضون للعنف داخل المعاهد، مشيرة إلى أن المصدر الأساسي لهذا العنف هو الإدارة والقيمون عليها. وهذه المؤشرات تعكس هشاشة الأوضاع الاجتماعية في هذا الحي واستفحال مظاهر الانحراف والتشتت، بسبب غياب الدولة وعدم توفير الفضاءات الترفيهية والتثقيفية للتلاميذ والشباب عموماً، التي من شأنها استقطابهم وإبعادهم من المخدرات وغيرها من الآفات والمخاطر. 

وبسبب هذه الظروف الاجتماعية الصعبة، كانت هذه الأحياء وقود الاحتجاجات والمواجهات مع قوات الأمن التونسية إبان ثورة يناير 2011، على اعتبار أن التغيير سيشملها. شهدت هذه الأحياء اشتباكات كبيرة بين شبابها وقوات الأمن وقد أسفرت تلك الأحداث العنيفة عن سقوط 25 شخصاً في هذه الأحياء وعشرات الجرحى، ولم يتركوا الساحات حتى سقوط نظام بن علي آملين ببداية جديدة تنقذهم من الفقر والتهميش.

إقرأوا أيضاً:

 لكن ما حدث أن مظاهر التنمية ومشاريع البنى التحتية لم تطرق أبواب هذه الأحياء على مدار سنوات عشر تلت سقوط النظام السابق، بل استفحلت الجريمة بأنواعها وتجارة المخدرات وتردت الأوضاع الاجتماعية أكثر وزاد منسوب الشعور بالإحباط والتهميش لدى الشباب، ولجأ كثر إلى زوارق الموت بحثاً عن حياة كالحياة، فيما أصر آخرون على الاستمرار في الاحتجاج، وقد بدأت تحركاتهم تربك الدولة وتخيفها لا سيما أنها لم تنجح في إخمادها، على رغم المواجهة القمعية. وتتجدد التحركات الاحتجاجية في هذه الأحياء منذ أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ومن المرجح أن تتزايد في ظل الارتفاع المستمر في الأسعار. 

يسكن عماد مجدوب (27 سنة) في حي دوار هيشر، وهو عاطل من العمل، على رغم شهادته الجامعية. يرى أن الحياة في حيه الشعبي قد تبدو للناظر من بعد شبيهة بغيرها من المناطق ولكنها تخفي معاناة كبيرة “تأبى أن تتركك حتى عندما تخرج من هذا الفضاء الجغرافي”.

ويقول لـ”درج”، “إن الحديث عن الحياة داخل حي كدوار هيشر ليس أمراً يسيراً لأن صور المعاناة كثيرة ومختلفة وجميعها تستحق وقفة خاصة، “التفاصيل الموجعة هي يومياتنا نحن شباب هذه الأحياء المنسية، نعيش كل صنوف الظلم في دولة تشيد من أجلنا السجون وتضعنا على رأس خططها الأمنية ولكنها لا تضعنا أبداً ضمن برامجها التنموية”.

ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد بالنسبة إلى عماد، فالانتماء إلى حي شعبي كدوار هيشر مثلاً، قد يكون سبباً مباشراً في الحرمان من وظيفة بسبب السمعة السيئة لهذه الأحياء كفضاءات يكثر فيها العنف والإجرام. ويوضح ذلك قائلاً، “منذ أيام بن علي عندما تذهب للبحث عن عمل كثيراً ما ترفض لأنك ابن أحد الأحياء الشعبية، وعلى رغم تراجع هذه الظاهرة قليلاً بعد الثورة، إلا أنها ظلت مستمرة وشخصياً ما زلت أفشل في الحصول على عمل بسبب مكان إقامتي، وهذا ينطبق على الكثير من الأصدقاء من أبناء الحي. لا تشفع شهاداتنا العلمية بنا ويُحكم علينا انطلاقاً من سمعة حينا الشعبي السيئة”. 

وأمام هذه الأوضاع يواصل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التحذير من تعمق الشعور باللامساواة عند الشباب، وبخاصة أبناء الأحياء الشعبية. وتأتي هذه التحذيرات عقب دراسة أجراها  المنتدى مع مجموعة من المنظمات وشملت 800 شاب وشابة من أحياء شعبية كحي التضامن ودوار هيشر وسيدي حسين والكبارية، بينت أن 60 في المئة من الشباب الذين استطلعت آراؤهم يشعرون بالتهميش والظلم، وأن 74 في المئة من هؤلاء الشباب يعتقدون أنهم خارج حسابات الدولة وأن صوتهم غير مسموع. واتفقوا على أن مرد ذلك الفشل في مواجهة الفساد وتكريس سياسة الإفلات من العقاب وعدم المساواة أمام القانون.

في الأثناء، أكد بحث ميداني أجرته “منظمة اليقظة العالمية” (International Alert) تناول أوضاع الشباب في منطقتي دوار هيشر والتضامن الشعبيتين في العاصمة، أن 98.8 في المئة من الشباب المستجوبين في هذين الحيين لا يثقون في السياسيين الموجودين على الساحة والماسكين بزمام الأمور، معتبرين أن هؤلاء لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية.

المتحدث الرسمي باسم المنتدى رمضان بن عمر يرى أن هذه الفئات الواسعة داخل الأحياء الشعبية قد سئمت العنف والعقاب الجماعي واستمرار الإقصاء والإفقار والتجويع، ولهذا فإن غضبها لن يهدأ وسيتصاعد للمطالبة بتحقيق المنجزات المرتقبة للثورة، لا سيما المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والكرامة على حد تعبيره.

و يقول بن عمر لـ”درج”، “كيف سيثق هؤلاء بدولة تتغيب عن تفاصيلهم اليومية، غير عابئة بفقرهم وبؤسهم وأمنهم المعدوم ومحيطهم المتسخ، لكنها حـاضرة بقوة عبر بوليسها مزنّراً بكارت أخضر يسمح بممارسة كل أنـواع العنف، مقابل تأمين ضمانات لرجال الأمن بالإفلات من العقاب؟”.  

ويحذر بن عمر من سياسة التهميش والإقصاء التي تنتهجها الدولة ضد الأحياء الشعبية، معتبراً أن هذا النهج إلى جانب تفاقم الفقر والبطالة، قد يجعلان شباب هذه المناطق قنابل موقوتة قابلة للانفجار الاجتماعي في أي وقت، لا سيما في ظل الانتهاكات الأمنية الكبيرة والمتتالية، فضلاً عن إمكانية استقطابهم بسهولة إلى الجماعات المتطرفة، بسبب تنامي شعور الحقد والغضب من الدولة ورجال أمنها.

إقرأوا أيضاً: