fbpx

“ذات يوم قامت ثورة خلف القضبان”…
عن الصوت الجماعي لسجناء مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

استعاروا هتافات ميدان التحرير ورابعة وراحوا يرددونها. كان صوت واحد من 500 حنجرة، يصدح في سماء أحد السجون المركزية المحاطة بالعمران والمباني المرتفعة داخل المدينة، التي شاهد سكانها عبر الشرفات والنوافذ، انتفاضة المساجين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثناء فترة اعتقالي (بين عامي 2014 و2019)، اندلعت انتفاضة داخل السجن، استمرت يوماً واحداً، وفي صباح اليوم التالي كان تم قمعها بالكامل. وكما في كل الثورات، انطلقت الشرارة بتصادم قضية شخصية لأحد المعتقلين مع إدارة السجن، ثم أخذت تتمدد لتشمل مجتمع السجناء السياسيين بأكمله تقريباً.

منذ ذلك اليوم، وبرغم إحباط تلك “الثورة” الصغيرة، والسيطرة عليها بالاستعانة بقوات خاصة، تم استدعاؤها من مصلحة السجون، بدأت تتشكل روح جديدة في السجن. وكأن السجناء اكتشفوا سراً كان غائباً عنهم، وهو قوة اتحادهم. 

بدأت الثورة، بعد انتهاء أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين من الزيارة واكتشافه عبر هاتف مهرب أنه تم القبض على والدته بعد إهانتها أحد الضباط، لأسباب تتعلق بالتفتيش الذاتي والتحرش الجنسي. 

اعتبر السجناء هذه القضية مشتركة وجماعية، وبدأ صوت جماعي يرتفع داخل أسوار السجن. لم يترك السجناء مساحة للحوار أو التفاوض السلمي مع الإدارة. وكأنهم انتقلوا في غمضة عين من الفردية والاستضعاف، إلى التمرد والقوة.

احتل السجناء مكتب رئيس المباحث وطردوه إلى خارج بوابة العنبر، كما طاردوا فريق المباحث والمعاونين والمخبرين وضباط الاستيفاء واشتبكوا معهم، حتى طردوهم أيضاً خارج العنبر.

أصبح المبنى كله لهم، مزقوا أوراق التذاكر، التي تعتبر بمثابة بطاقات الهوية للسجناء، بعدما احتلوا الغرفة المخصصة لها. خرجوا من مبنى السجن واحتلوا المساحة المحاطة بسور دائري. أصبح بينهم وبين قوات السجن سلك حديدي لا يحجب الرؤية. 

استعاروا هتافات ميدان التحرير ورابعة وراحوا يرددونها. كان صوت واحد من 500 حنجرة، يصدح في سماء أحد السجون المركزية المحاطة بالعمران والمباني المرتفعة داخل المدينة، التي شاهد سكانها عبر الشرفات والنوافذ، انتفاضة المساجين.

بعد ساعات من هذا الانفلات، جازف مأمور السجن بدخوله منفرداً إلى السجناء ليساومهم على حل هذه الورطة. رفع يده فوق رأسه مشيراً إلى طلب السلم، وطلب الحديث، هدأ السجناء قليلاً.

بدأت الثورة، بعد انتهاء أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين من الزيارة واكتشافه عبر هاتف مهرب أنه تم القبض على والدته بعد إهانتها أحد الضباط، لأسباب تتعلق بالتفتيش الذاتي والتحرش الجنسي. 

سأل المأمور، “ما هي طلباتكم؟ أن يتم الإفراج عن السيدة التي تم اعتقالها، سوف يحدث ذلك فوراً وسأعتذر لها شخصياً. وأعدكم ألا يتكرر ذلك. وأعدكم، من الآن فصاعداً سيتم التعامل مع الزائرين بطريقة جيدة. هل تطلبون شيئاً آخر؟”. 

رد أحد السجناء مطالباً بالإفراج الفوري عن كل المعتقلين، كونهم رهائن للاختطاف البوليسي وليسوا مجرمين. استغرب المأمور هذا الطلب، كما استغربه- للحق- الكثير من السجناء. 

قال المأمور إنه لا يملك سلطة لفعل ذلك… “عليكم بانتظار قرار الجهات المعنية”.

شجعت حماسة الأحداث الثورية وحالة الارتباك الجديدة والموقتة البعض على تبني تلك المطالب، مبررين بأنهم كانوا يرفعون سقف مطالبهم للحصول على موافقة سريعة لما يريدون بالفعل، وهو تحسين أوضاعهم المعيشية من خلال المطالبة بالسماح لهم بالحصول على بعض الأشياء الممنوعة، كتقنين الراديو، ومبثات التسجيل الموسيقية، وإطالة فترات الزيارة، ومد ساعات التريض، وما إلى ذلك. 

وافق المأمور على تنفيذ الشروط بلا تردد، ورجا الجميع بالتوجه إلى الزنازين. اعترض بعضهم على ذلك، خوفاً من تفريق السجناء والاستفراد بمعاقبتهم لاحقاً، فيما بدا آخرون أكثر تأييداً للفكرة.

قال الشخص الذي تسبب في إشعال هذه الثورة لأصدقائه “لن ندخل قبل أن نطمئن على سلامة والدتي”. ثم اختفى وظهر بعد ذلك ليشير إلى زملائه بأن والدته قد أفرج عنها. وبرغم أنه فعل ذلك خفية، إلا أنه في صباح اليوم التالي، بعدما أمضى السجناء ليلتهم في الزنازين انصياعاً لكلمة المأمور، طلب من رئيس مصلحة السجون الذي حضر بصحبة قوة هائلة أن يحضر الهاتف -الذي تحدث من خلاله وعرف الأخبار- قبل إيداعه غرفة التأديب الانفرادي.

في السادسة صباحاً، اقتحمت قوات خاصة الزنازين وأخرج السجناء إلى الساحة التي شهدت أحداث الانتفاضة. تمت معاقبة السجناء جماعياً بتجريدهم من ممتلكاتهم، وأودع عدد منهم في زنازين انفرادية. 

ليس خفياً أنه لم يحدث أي تطور على مستوى المطالب أو المكاسب التي طالب بها السجناء، بل تمت معاقبة كل من في العنبر، بما فيهم المجموعة التي لم تشارك في الانتفاضة لأسباب أيديولوجية، وهؤلاء يرفضون الانضمام يشارك به الإخوان المسلمون.

بيد أن السجناء من يومها عرفوا مدى قدرتهم على الفعل، وقوة تأثيرهم حين يتحدون. وبدأ -على رغم المعاقبة الجماعية- يحكم السجن نظام يحرص على الالتفات إلى مشكلات النزلاء الفردية، قبل أن تحدث اضطراباً في حركة السجن وتثير الفوضى. وقد تم تشكيل هيكل نظامي رسمي يحتوي على “هيراركيات” تضم سجناء سياسين يتولون مسؤوليات تنظيمية، و”مسيرين” يسيرون حركة السجن.

إقرأوا أيضاً:

التقسيم الهندسي والاختلاف الأيديولوجي

في معظم السجون التي دخلتها، يتم تقسيم زنازين السجناء السياسيين، بين الإخوان المسلمين وهؤلاء يشترك معهم في العيش تحت سقف واحد، اليساريون والليبراليون، ويصفون وفق درجة الخطورة ذاتها. القسم الثاني فيه الإسلاميون الأكثر تشدداً كعناصر تنظيم “القاعدة” و”داعش”. يتم تقسيم العنابر وفقاً لتصميمها الهندسي بحسب نظام كل سجن، ويتم الفصل كلياً بين هاتين الفئتين في حالات خاصة ونادرة.

 الحالة الوحيدة التي شهدتها كانت بين عامي 2017 و2019 في سجن الشديد2 في طرة. كان في ذلك السجن مبنيان، أحدهما يضم جميع السجناء المحتمل إدراجهم على قوائم العفو الرئاسية، سواء من الإخوان أو اليساريين أو من غير المصنفين بغرض مراقبة تصرفاتهم وإعادة تأهيلهم للعيش في المجتمع وفقاً لرؤية الدولة. وهؤلاء كان يتم استدعاؤهم بشكل دوري لحضور دروس تنظيرية وأبوية يقيمها أسامة الأزهري مستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي للشؤون الدينية في ساحة السجن. 

العنبر الآخر محظور تماماً ولا يعلم أحد ماذا يدور بداخله. وهو يحتوي بشكل خاص على أعضاء “حركة حسم” وغيرهم من المتورطين بعمليات نوعية.

عندما كانت تتم تهيئة مجموعة من هذه العناصر لترحيلها إلى المحاكمة، كان المخبرون يدفعون السجناء الآخرين- غير الخطرين- بحرص عنيف إلى أماكن مستترة وبعيدة من طريق سيرهم حتى لا يروا أحداً من تلك العناصر. وكأنهم أشباح من عالم آخر، كنا نسمع عنهم ونسمع أصواتهم أحياناً يئنون من الألم ولا نرى أحداً منهم.

ذات مرة، تم تغيير استراتيجية النظام قليلاً لأسباب أمنية، وتم تبديل العنابر. حملنا حاجاتنا وجمعنا في ساحة كبيرة، أغلقوا علينا بابها، ثم ساقوا سجناء العنبر الآخر- والذين لا يمتلكون حاجيات- معصوبي الأعين غالباً إلى عنبرنا، ثم أودعونا بعد ذلك في عنبرهم.

كان العنبر مغلقاً على نفسه بشكل مركب، في نهاية كل طرقة كان يقوم حاجز حديدي، هذه الحواجز تقسم العنبر إلى أربعة أرباع متجزئة. أول شيء رأيناه في الزنازين، كان تقويماً زمنياً مفصلاً لأيام السنة على الحائط، كتبه السجناء بأيدهم لمعرفة الوقت والأيام. 

في سجن الاستقبال في طرة، كانت الإدارة تفصل بين الفئتين بوضع كل منهما في طبقة مختلفة في العنبر نفسه، وكان الانقسام واضحاً في نمط الحياة اليومية.

كان ملعب كرة القدم مقسماً، بحسب جدول أسبوعي إلى أيام معينة لكل فئة. ذات مرة، رأيت مجموعة من الشباب يلعبون الكرة وقررت الانضمام إليهم. كان ذلك في أولى أيامي في هذا السجن. انتعلت حذاء رياضياً وهبطت مسرعاً على السلالم من الطبقة الرابعة متلهفاً للعب. توجهت إلى أحد المنتظرين خارج الملعب وسألته “مين النازل”؟ رد بخشونة أنه لا يمكنني اللعب. 

عدت مصدوماً إلى الطبقة الرابعة، ومن ثم أخذت أشاهدهم. لا “فاولات” ولا ركلات جزاء ولا يوجد حكم، ولا قوانين واضحة لتنظيم اللعب، عندما يتصادم لاعبان داخل الملعب، يمسك أحدهما الكرة ويلقيها إلى حارس المرمى. لا حدود للملعب وبالتالي لا منطقة “للأوت”. 

سألت زميلاً عما يحدث، ولماذا لم يسمحوا لي بمشاركتهم هذه الفوضى. قال لي إن عناصر من “داعش” يلعبون الكرة، وهذا هو يومهم بحسب الجدول الزمني، وهم لا يتخذون حكماً لينظم لعبتهم، لأن من يحكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.

ذات يوم استيقظ السجن على عملية اختطاف أعقبتها أحداث دموية. قرر مجموعة من شباب “داعش” اختطاف مسؤول العنبر المسجون السياسي والمنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. أسقطوا مروحة السقف ونزعوا منها ريشة حديدية، سنوا أحد طرفيها على الصخر لتصبح حادة كسلاح أبيض. استمرت عملية الاختطاف نحو عشر دقائق، هددوا فيها الإخوان والإدارة بأنهم سوف يذبحون كبيرهم. 

اقتحم شباب جماعة الإخوان طبقة الدواعش واشتبكوا معاً في معركة عنيفة ودموية، واستطاع الإخوان الذين يفوقونهم عدداً باقتحام الزنزانة لتحرير كبيرهم.

كانت قوات السجن واقفة تتفرج، وفي الصباح جاءت قوات هائلة من مصلحة السجون التي تبعد خطوات من سجن طرة، جردت كل السجناء، وعاقبت المختطفين بالنفي والتغريب إلى سجن العقرب، أسوأ السجون في مصر، كما عاقبت الأطراف الآخرين والمصابين ومن اشترك في المعركة بعقوبات تراوحت بين التغريب والتأديب الانفرادي وفتح محاضر جنائية. 

كلمة المعتقل في اللغة تعني الشخص الذي تم اعتقاله. وتعني أيضاً مكان الاعتقال، وبالتالي هي لا تميّز بين الشخص والمكان الذي يوضع فيه أثناء الاعتقال. 

الفعل والفعالية بين السجين والمعتقل

في الزنزانة نفسها، يعيش الإخوان المسلمون مع بعض اليساريين والليبراليين وغير المصنفين أيديولوجياً. ولا يمكن أن تمر فترة طويلة دون أن تطفو المشكلات الأيديولوجية على السطح، فهي حية وحاضرة بشكل دائم ، في تفاصيل الحياة اليومية.

وتظهر الاختلافات الأيديولوجية في اللغة المستخدمة، كالفرق بين كلمتي “السجين” و”المعتقل”. 

كلمة المعتقل في اللغة تعني الشخص الذي تم اعتقاله. وتعني أيضاً مكان الاعتقال، وبالتالي هي لا تميّز بين الشخص والمكان الذي يوضع فيه أثناء الاعتقال. 

بالإضافة إلى هذا الخلط اللُغوي وعدم تحديد الفروق الطبيعية بين الأشخاص والأماكن، تضع هذه الكلمة، وهذه مفارقة أخرى، حدوداً أيديولوجية بين الأشخاص. 

فتفرق بين السجناء السياسيين وغيرهم من الجنائيين الذين لا يمكن وصفهم بالمعتقلين. كما أنها تفرق بين السجناء السياسيين والذين لا يفضلون أن يعرفوا أنفسهم كمعتقلين نظراً لما تحمله هذه الكلمة من أيديولوجيا.

أما كلمة “سجين”، فتعني الشخص الذي تم إيداعه في السجن. أي أنها من البداية تميّز بين الشخص والمكان الذي أودع فيه. بينما لا تميز بين الذين داخل السجن أياً كانت أيديولوجياتهم أو ملفاتهم.

وتعتبر كلمة “معتقل” بالنسبة إلى بعض السجناء السياسيين -وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين- تمسكاً أيديولوجياً ورمزياً بفكرة المقاومة التي تتناقض مع سياسة الدولة الحالية ومحاولاتها تقنين القضايا السياسية بديلاً عن الاعتقال.

إقرأوا أيضاً: