fbpx

أي دستور لتونس يريده قيس سعيد!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ضيَّع الصراعُ على الدستور الثورة في مصر بـ”ضربة قاضية” غدت سهلةً بعدما بلغ الانقسام أعلى مبلغ. وضيَّع الوضع، الذي نتج عن عدم التوازن في المجلس الذي صاغ الدستور، الثورة في تونس بـ”النقاط”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس أكثر من حذاءٍ. 

إنه الدستورُ في نظر الحُكام المُتسلطين، وقادة نظم الحُكم المُستبدة، حين لا يكونُ من صُنعِهم، أو وفق هواهم. مجردُ حذاءٍ يمكنُ تعطيلُه بجرة قلم، أو إلقاؤه في أقرب سلة، إذا لم يُرِح أقدامهم. إنه أي دستور لا يُعجبُ، أو لا تُناسبُ موادُ فيه، حُكاماً ينسفون كل ما، ومن، يقف في طريق سلطة مُطلقة يريدونها، أو يحافظون عليها.

“لا أُريد دستوراً كالحذاء على مقاس من وضعوه”. هكذا خاطب الرئيس التونسي قيس سعيد رئيسة الحكومة التي اختارها وفق ما نقلته وسائل الإعلام في 7 شباط/ فبراير 2022، بعدما عطل ما لا يُريحه في دستور 2014، تمهيداً لاستبداله بآخر يجد فيه راحة كاملة. وقد عبر، بهذه الكلمات الصريحة جداً، عما يؤمن به غيره من الحُكام الذين يتعاملون مع الدساتير كما لو كانت مجرد مناديل ورقية.

طريقُ التهلكةِ يبدأُ بقلبِ الأولويات

لم تُدرك النُخب السياسية المتصارعة، التي تصدرت المشهد، في بعض بلدان الربيع العربي عام 2011، أن الانغماس حتى النُخاع في معارك على بضع مواد تتعلقُ بالهوية في دساتير جديدة انغمسوا في إعدادها وإصدارها، يعني أنهم (أبناء النخبة) يُقَدمون أغلى هدية لقوى الثورة المضادة. وضاعت في البريةِ أصوات من نبهوا إلى أن الأولوية يتعين أن تكون لبناء توافقٍ عامٍ على خطوات الانتقال الديموقراطي، لأن الشروع في كتابة دساتير قبل إنجاز هذا التوافق يؤدي إلى تعميق انقسام كان موجوداً قبل الثورات، ويُحوله إلى صدامٍ يُضيعُ فرصةً تاريخيةً لبلادهم، ويعصف بهم، في آن معاً. 

فكانت النتيجةُ أن آمالاً عريضة في بناء دول تُحكم بدساتير ديموقراطية، وتُحتَرم فيها النصوص الدستورية والقوانين التي تُصدر على أساسها، راحت ضحيةَ سوء تقدير ومحدودية وعي من تصدروا المشهد في مصر، ثم في تونس، وهما البلدان اللذان كانا مؤهلين لبناء نموذج مُلهم يُشع في منطقة جرداء، من حيث قواعد الديموقراطية وتقاليدها وثقافتها. مضت النُخب المُنقسمة مُغمضة أعينها ومُغلقة عقولها إلى ما بدا في مطلع 2012 مصيراً كان يمكن تجنبه. وغفلت عن علاماتٍ كانت كافيةً لإدراك أنها اختارت طريقاً تقود إلى تضييع أحلام ربيعٍ انتظرت تفتح زهوره طويلاً. وأصرت على مواصلة السير في طريق التهلكة هذه، إلى أن كرَّسَت صراعاتُها على الدستور انقساماً دمر آمال الديموقراطية وأحلامها. فلم يمض عامان ونيف على ثورة 25 يناير المصرية حتى كان الصراع المحموم على دستورٍ لا قيمة له إلا في دول دستورية قد فعل فعله.

وبرغم أن الوضع في تونس بدا حينها مختلفاً، بعدما حدث توافق صعب على الدستور، كان ذلك التوافق في حقيقته موقتاً، لأن الأطراف التي هُمشت في المجلس التأسيسي، بسبب التعجل في انتخابه قبل أن تُتاح لها فرصةُ للاستعداد، قررت أن تهدم المعبد على من فيه. وحال جمودُ القوى التي تصدرت المشهد، من دون أن تنفرد به أو تسيطر عليه، دون احتواء صراعٍ أخذ في التصاعد وحمل نُذُر تضييَّع الديموقراطية وأحلامها بطريقةٍ مختلفةٍ عما حدث في مصر، ولكنها متجهةُ منذ تموز/ يوليو الماضي نحو نتيجةٍ لا تختلفُ كثيراً. ضيَّع الصراعُ على الدستور الثورة في مصر بـ”ضربة قاضية” غدت سهلةً بعدما بلغ الانقسام أعلى مبلغ. وضيَّع الوضع، الذي نتج عن عدم التوازن في المجلس الذي صاغ الدستور، الثورة في تونس بـ”النقاط”. وربما تحل الذكرى الثانية عشرة لثورة شعبها في مطلع العام المقبل، وقد أُسدل الستار عليها بشكل كامل، كما حدث في مصر منذ سنوات.

إقرأوا أيضاً:

دساتيرُ غير دستورية

كان شعارُ “الدستور أولاً” بمثابة حبلٍ لفه من رفعوه حول أعناقهم دون أن يُدركوا أن التحول إلى دولة دستورية لا يحدثُ بغمضة، بل يمرُ في مراحل تبدأ ببناء توافقٍ عامٍ حقيقيٍ على قواعد العملية السياسية، من خلال تنازلاتٍ متبادلةٍ يؤمنُ الجميع بأنهم رابحون إذا قدموها راضين، وخاسرون لا محالة في النهاية إذا حجبوها غاضبين. 

ونسوا في اندفاعتهم غير المحسوبة أن الثورة اندلعت، هنا وهناك، في بيئة غير دستورية في مبناها ومعناها. فلم تكن مطالباتُهم بدساتير ديموقراطية قبل الثورة قائمةً على وعيٍ كافٍ بما تعنيه. كانوا جزءاً من بيئةٍ غير دستورية، برغم أن البلدين عرفا الدساتير في وقت مبكر للغاية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وسبقا البلدان العربية والشرق أوسطية الأخرى في ما يتعلق بالمسألة الدستورية. غير أن وجود دستورٍ لا يعني بالضرورة توافر بيئة دستورية. فكم من دساتير توجد في دولٍ غير دستورية لا قيمة للدستور، ولا للقانون، فيها.

ولهذا لم يستوعبوا الدلالة العميقة لفكرة إرجاء كتابة الدستور إلى ما بعد بناء التوافق، والاكتفاء بتعديلاتٍ في المواد المتعلقة بالحُريات ونظام الحُكم في الدستورين اللذين كانا ساريين في مصر وتونس عند اندلاع ثورتيهما، لكي لا يبنوا على رمال متحركة، أو يحرثوا في بيئةٍ لا يمكن أن تكون دستوريةً بدون هذا التوافق الذي ظل غائباً. فما هى إلا دساتيرُ من ورق تلك التي تُكتب في أجواء غير توافقية، وفق عنوان كتاب ناثان براون (دساتير من ورق… الدساتير العربية والسلطة السياسية) الذي نُشرت ترجمتُه العربيةُ بوساطة أستاذ القانون الدستوري د. محمد نور فرحات عام 2010 قبل أشهر على ثورات الربيع العربي، ولم يُلتفت إليه، أو إلى من نبهوا لأهمية ما يتضمنُه، وخاصةً ما اعتبرها مؤلفه شروطاً للوصول إلى حُكمٍ دستوريٍ كاملٍ في البلدان العربية.

والحالُ أن الفرق شاسع بين دولة فيها دستور، ودولة دستورية. فلا تكون الدولةُ دستوريةً إلا إذا كان دستورها ناتجاً عن توافق عام، ويحظى برضا كبير. ولهذا تبقى الدولةُ غير دستورية برغم وجود دستور فيها ما لم يحدث هذا التوافق. لكن هذا ليس إلا الخطر الأصغر. أما الخطر الأكبر فهو الإصرار على كتابة الدستور في غياب توافقٍ حقيقيٍ لا شكلي، توافق مستدام أو قابل للاستمرار لا موقت، لأنه يقودُ إلى انقسام، أو يُعمقه. وعندما يحدثُ هذا في لحظةٍ نادرةٍ تتوافر فيها فرصة تاريخية لانتقالٍ ديموقراطي، تكون نتيجتُه تضييع هذه الفرصة، وفتح الباب أمام العودة إلى نقطة الصفر أو ربما ما دونها.

إقرأوا أيضاً: