fbpx

قائمة إريكسون من منظور لبناني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

شعرنا جميعاً بالسوء تجاه المهندس الشاب، الذي درس وعمل بجد لتأمين حياة أفضل لنفسه ولأسرته، والذي كان مؤهلاً بما يكفي ليكون أكبر مسؤول تنفيذي في مجال الشركة، إلا أنه لم يستحق بنظر رؤسائه راتباً أفضل وحقوقاً أساسية، تقرها القانون المحلي وكذلك القوانين الدولية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بالنسبة إلينا في منصة “درج”، فإن تحقيق “وثائق إريكسون” كانت له طبيعة خاصة؛ فعلى غرار المشاريع السابقة التي تعاونا فيها مع “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، ارتكز هذا المشروع في البداية على مستند داخلي يوضح كيف اعتمدت شركة الاتصالات السويدية العملاقة “إريكسون” على الرشوة والاحتيال والفساد في سعيها لتحقيق الربح.

كثيراً ما يتم التسامح مع مثل هذه الممارسات- التي يُجرمها القانون الأوروبي- تحت إطار أنها الطريقة التي تسير بها الأعمال التجارية في الجزء الخاص بنا من العالم. ويقع هذا التناقض بين الممارسات المحلية والدولية في صميم معظم تحقيقات الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين. إنه أحد الأسباب التي تجعل التعاون العابر للحدود مهماً للغاية في الكشف عن كيفية تكوين الثروات غير المشروعة على نطاق عالمي.

ما جعل هذا المشروع فريداً بالنسبة إلينا هو نطاقه وتوقيته؛ إذ إن بعض المعلومات الأكثر إثارة للانتباه التي كشفت عنها “قائمة إريكسون” تتعلق بالعراق ولبنان، وهما دولتان نغطيهما في “درج” على نطاق واسع. تعيش كلا الدولتين حالياً أزمة سياسية واقتصادية عميقة، تسببت فيها إلى حد كبير النخب السياسية نفسها ورجال الأعمال الذين شاركتهم ومنحتهم النفوذ لعقود، وهذا لا يشمل الشركات متعددة الجنسيات مثل “إريكسون” فحسب، بل الحكومات والمنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

ارتكز هذا المشروع في البداية على مستند داخلي يوضح كيف اعتمدت شركة الاتصالات السويدية العملاقة “إريكسون” على الرشوة والاحتيال والفساد في سعيها لتحقيق الربح.

في لبنان، أتاحت الوثائق فرصة لإعادة فتح ملف قطاع الاتصالات، الذي يعد ثاني أكبر مزود للدخل في الدولة ومثالاً بارزاً على سوء الإدارة والفساد.

لكن بقدر ما كان الجزء اللبناني من التحقيق مهماً، فقد كانت قصة العراق هي الأكثر إثارة وجذباً للانتباه؛ ربما ذلك لأنها أعادتنا جزئياً إلى الفترة 2014-2017 عندما كان العالم كله متحداً لمحاربة “داعش”، وبدلاً من أن تقف بنا على عمق هذه الوحدة، أظهرت لنا مرة أخرى حدود الحرب على الإرهاب ونفاقها. والأهم من ذلك، أنها منحتنا وشركاءنا في “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” فرصة لنخبر العالم بقصة نادراً ما تُسمع عن العراق وشعبه.

إليكم قصة مهندس اتصالات عراقي قرر- بعد سنوات من العمل الشاق في القطاع الخاص- ترك منصبه وتولي وظيفة صغيرة في القطاع العام بدلاً من ذلك؛ إنها قصة عن العَرَق والجشع والدم.

وهي أيضا قصة تبين كيف أن السياسيين الفاسدين ورجال الأعمال الجشعين دمروا آفاق الحاضر والمستقبل للشعب العراقي، وكيف أن الشركات متعددة الجنسيات- التي تدَّعي احترام السلوك الأخلاقي في ممارسة الأعمال التجارية- بمصافحتها جميع أنواع الشياطين، أصبحت متواطئة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

إن الرواية التي قصَّها علينا عمر لا تُصدق، لكن المهندس الشاب لم يبدُ متأثراً جداً.

ذهب فريقنا إلى العراق لإلقاء نظرة فاحصة على ما أظهرته لنا ملفات “إريكسون”. كان يفترض أن نلتقي به في اليوم السابق في الموصل، لكن المقابلات التي أجريناها في المدينة التاريخية- التي كانت في يوم من الأيام قلب بلاد ما بين النهرين، وعاصمة “داعش” منذ وقت ليس ببعيد- تأخرت واضطررنا للعودة إلى فندقنا في إربيل قبل حلول الظلام.

عندما أخبرنا عمر أن علينا إعادة تحديد موعد، أصر أولاً على استضافتنا في منزله، وعندما رفضنا العرض، اقترح مقابلتنا في فندقنا في صباح اليوم التالي، وهذا ما حصل.

كان الجو مشمساً يوم التقينا بعمر، من دون أن يخلو من بعض البرد. كنا نجلس حول طاولة، ونحتسي قهوتنا، ونستمع إلى روايته حول كيفية تعامل شركات الاتصالات مع أعمالها في ظل حكم “داعش”.

عندما سألناه عن عفان- قائد الفريق المحلي الذي عمل مع شركة الاتصالات المحلية “أوربيتِل” المتعاقدة من الباطن، الذي اختطفه “داعش”، وفقاً للوثائق التي رأيناها- قال عمر إنه سمع عن ذلك، وأكد القصة المتداولة بتخلي من كان يعمل معهم عفان عنه، وتركه لمصيره مع الخاطفين.

كان هذا قبل أيام قليلة من عثور أمير موسوي – زميلنا في التلفزيون الألماني “إن دي آر”، وشريكنا في مشروع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين- على عفان والتحدث إليه.

قال عمر إنه لم يكن على علم بأي رشاوى دُفعت لطالبي الفدية.

وقال: “دفعت الشركات رشاوى لحماية أعمالها، لكنها لا تهتم بالفنيين العراقيين”.

مثل كل فنيي ومهندسي الاتصالات الذين التقينا بهم، بدا عمر مستمتعاً بـ”سذاجة” أسئلتنا؛ حيث لم يكن لديه شك على الإطلاق في أن شركات الاتصالات دفعت لـ”داعش” لحماية أبراجها.

“هل تعتقد أن الأبراج نجت من التدمير بمحض مصادفة؟ بالطبع دفعت الشركات، يعلم الجميع أن كلهم دفعوا، حتى الصيادلة والأطباء كان عليهم الدفع، حتى أصحاب المراكز التجارية دفعوا، لم يماطل أحد. إذا أردت أن تموت، فماطلهم. أما إذا كنت تريد أن تعيش وتعمل بأمان، فعليك أن تدفع”.

ما كان يقوله لنا كنا نسمعه منذ أيام من مختلف خبراء الاتصالات، وكذلك من الصحافيين والنشطاء والسياسيين المحليين.

إقرأوا أيضاً:

قال أحد الصحافيين المحليين الذين غطوا الحرب على “داعش” في الكثير من وسائل الإعلام الدولية: “إذا كنتَ تمثل شركة متعددة الجنسيات مثل “إريكسون”- أو أي شركة أخرى- فأنت تعلم جيداً أن تنظيماً مثل داعش لا يمكن أن يبقى هناك إلى الأبد، ومن ثم ستفعل ما عليك فعله لحماية استثماراتك. تبلغ قيمة هذه الأبراج ملايين الدولارات، فضلاً عن الوقت الذي ستستغرقه إعادة بنائها؛ ولهذا فأنت ستدفع وتتأكد من عدم وجود أثر أو معاملات يمكن تتبعها، ولهذا الغرض تحديداً هناك مقاولون محليون”.

وما أكده هو وكثيرون آخرون أن دفع الرشاوى لم يكن بالشيء الجديد، فقد حدث ذلك أيضاً عندما كانت جماعات متشددة أخرى- مثل “جيش محمد” و”القاعدة”- تسيطر على المنطقة، كما أنها لم تكن الطريقة الوحيدة للتعامل مع “داعش”، إذ يعد الفساد في قطاع مثل الاتصالات مجرد جزء من الطريقة التي كانت تدار بها الأعمال.

قال عمر: “الجميع ما بين راشٍ ومرتشٍ، من عامل الأمن على البوابة إلى المدير التنفيذي”.

بالنسبة إلى كل شخص قابلناه، كان من الواضح تماماً أن الأعمال (البيزنس) دائماً ما تلغي أي اعتبارات أخرى، ووصل الأمر إلى التطبيع مع ذلك وقبوله تماماً. والحجة القائلة بأن المساهمة في تدفقات إيرادات “داعش” كانت-على الأقل- بمثابة هدم للحرب على الإرهاب وتسببت في مزيد من الضرر لمن يعانون أكثر من غيرهم؛ لم يكن لها مكان في معظم محادثاتنا.

عند استماعنا إلى عمر، كان علينا أن نستمر في تذكير أنفسنا بما يجب أن يكون عليه العيش في ظل “داعش”؛ فلم تكن قصص الرعب التي سمعناها جديدة علينا كصحافيين. وقد كان أحد أسباب رغبتي في الانضمام إلى الفريق في هذه الرحلة هو أنني كنت في الموصل عام 2017 عندما تحرر الجزء الشمالي فقط. وكنت أتوق لرؤية كيف تغيرت المدينة وسكانها منذ ذلك الحين.

لم تكن القصة التي تروي كيف اعتبر “داعش” امتلاك الهاتف جريمة عقوبتها الإعدام جديدة بالنسبة إلي، لكن مشاهدتي مباشرة كيف أن مثل هذه الأحكام لا تزال تؤثر في الناس حتى بعد سنوات من رفعها، كان أمراً مدهشاً.

لم يكن عمر أول شخص يخبرنا أنه شخصياً لم يكن يعرف أي شخص قُتل على يد “داعش” بسبب استخدام هاتفه، لكنه كان يعتقد بشدة أن ذلك حدث وتصرف بناءً عليه. هكذا كان الخوف حقيقياً. وفي المرات القليلة التي أُجبر فيها على التواصل مع العالم الخارجي تحت حكم “داعش”، كان عليه أن يقود سيارته طوال الطريق إلى دهوك- على بعد 55 ميلاً تقريباً- لإجراء مكالمة هاتفية.

لكن الإرهاب لم يكن الذاكرة السيئة الوحيدة، ولم يكن “داعش” هي المجرم الوحيد. فقد كان عدم حصوله على دخل لشهور في مدينته المحاصَرة أمراً مرعباً للغاية.

كانت الأمور ستختلف كثيراً لو كان موظفاً “داخلياً” في شركة “إريكسون”، لكن قلة قليلة من العراقيين كانوا كذلك.

“العراقيون هم من يقومون بالعمل، لكنهم جميعاً مقاولون من الباطن، ولا يتمتعون بأي حقوق”.

بعد حصوله على شهادة في الهندسة الطبية الحيوية، عمل عمر لسنوات في شركة “إم آي سي”- وهي شركة محلية غير معروفة خارج الموصل- والتي تعاقدت في بعض الأحيان من الباطن مع شركة “زين” و”كورك”، وهما من المشغلين الرئيسيين الثلاثة في شراكة مع شركة “إريكسون” في العراق.

ثمة ثلاث شركات في العراق هي “زين” و”آسياسيل” و”كورك”- لديها تراخيص تشغيل. وهي لديها علاقات وثيقة مع القوى السياسية المحلية، وتعمل مع البائعين الدوليين مثل “إريكسون”، وتعتمد على شبكة ضخمة من الموردين والمقاولين من الباطن لإنجاز أعمالها. إنها استراتيجية اعتبرها أحد رجال الأعمال: “أفضل وأحدث آلية لغسيل العمولات، أو أي مخالفات في عقود الهندسة والمشتريات والتشييد”.

أخبرنا عمر وآخرون كيف عانى المقاولون من الباطن الذين توظفهم الشركات المحلية من تخفيض رواتبهم في عهد “داعش”. وبالنسبة إليه، فقد استمر في تلقي راتبه بالكامل من حزيران/ يونيو 2014 حتى منتصف 2015، لكنه بدأ بعد ذلك في الحصول على نصف راتبه فقط حتى أوائل عام 2016، وبعد ذلك لم يحصل على شيء إطلاقاً.

كان هذا أحد أسباب استقالته في النهاية من وظيفته ذات الأجر الجيد نسبياً في قطاع الاتصالات والعمل في منصب حكومي بأقل من ربع راتبه السابق. فلكونه أباً لطفلين- واستقبل لتوه طفلة جديدة- لم يعد الدخل يمثل الأولوية القصوى بالنسبة إليه، إذ جاء الأمان والاستقرار أولاً.

كان الأهم من مبلغ الـ450 دولاراً في الشهر الذي كان يكسبه الآن، هو مكافأة نهاية الخدمة والتأمين الطبي، وحقيقة أن الراتب سيُدفع دائماً بغض النظر عن التطورات السياسية.

بالنسبة إلينا، كان الجزء الأكثر تحدياً هو التوفيق بين قصتين مختلفتين تماماً على ما يبدو؛ قصة “إريكسون” والمشكلات القانونية التي كانت تواجهها، وقصة آلاف الموظفين العراقيين الذين- على رغم عدم توظيفهم في الشركة- كانوا هم الأذرع التي تنفذ بها الشركة مشاريعها وتزيد أرباحها.

شعرنا جميعاً بالسوء تجاه المهندس الشاب، الذي درس وعمل بجد لتأمين حياة أفضل لنفسه ولأسرته، والذي كان مؤهلاً بما يكفي ليكون أكبر مسؤول تنفيذي في مجال الشركة، إلا أنه لم يستحق بنظر رؤسائه راتباً أفضل وحقوقاً أساسية، تقرها القانون المحلي وكذلك القوانين الدولية.

كانت إحدى النتائج التي كنا نحقق فيها هي حجم الأموال التي تمكنت “إريكسون” من ادخارها بفضل مخططات التهرب الضريبي التي طورها شركاؤها العراقيون. كان بعضها مرتبطاً بالرسوم الجمركية، واقتصر تأثيرها على الاقتصاد العام، لكن البعض الآخر كان له تأثير مباشر في حياة العمال.

إقرأوا أيضاً:

عمر، على سبيل المثال، كان يتقاضى 1700 دولار شهرياً في وظيفة تتضمن من 7 إلى 5 “أيام انتقالية”، والتي يتم فيها تنصيب التحديثات أو التبديل بين نظام وآخر، مما قد يعني البقاء في الموقع لأكثر من 20 ساعة دون الحصول على أي مكافأة أو أجر مقابل العمل الإضافي. تمكن صاحب العمل من توفير تكاليف ضخمة في خفض المزايا المستحقة للموظفين، بما في ذلك مكافآت نهاية الخدمة والتأمين، وثمة طريقة أخرى لتوفير المال هي الغش في الرواتب.

مهندس اتصالات آخر قابلناه هو أمير، الذي يعمل في شركة تعمل من الباطن مع شركة “زين”، ويتقاضى 2000 دولار أميركي. لكن على الورق، كان راتبه 400 دولار، وهو المبلغ الذي دفع صاحب العمل وفقه الضرائب.

سألت عمر عما يحدث إذا أصيب شخص ما؟ وبعد كل ما سمعناه، ما زلت غير مستعدة على الإطلاق لما سيأتي.

قال: “لا شيء؛ المقاولون من الباطن لا يحصلون على أي شيء. هم وحدهم. وهذا يحصل طوال الوقت”.

أخبرنا عمر قصة الشقيقين حمزة وعلي- كلاهما من الفنيين- وقد تعرضا لحادث عمل مميت، “إلا أنهما كانا سيئي الحظ بما يكفي إذ بقيا على قيد الحياة”.

حدث هذا قبل شهور، وقد خضع كلاهما منذ ذلك الحين لسلسلة من العمليات الجراحية، إلا أنهما لم يخرجا من المستشفى، إذ تحتاج عائلاتهما إلى 8000 دولار لتغطية الإجراء الطبي اللازم لعلي، والذي يعمل عمر وأصدقاؤه على جمعه. ربما لن يستطيع الفني الشاب المشي على قدميه مرة أخرى.

كنت أستمع إلى قصص عمر، محاولة تخيل مشهد الفنيين اللذين سقطا من برج الاتصالات، وأتساءل لماذا لم يغادر عمر البلاد كما فعل عدد لا يحصى من العراقيين؟ ما هي الآفاق التي يمتلكها الشباب العراقي المجتهد في حين أن حتى أولئك الذين يعملون لدى الشركات متعددة الجنسيات يفتقرون إلى الحقوق الأساسية؟

مرت ساعات، وبعد الاستماع إلى هذه القصة لم يتمكن أي منا من طرح سؤال آخر.

أخبرنا عمر بلطف أن سبب مجيئه هو أن زميله أمير- مهندس آخر قابلناه في اليوم السابق- أخبره أن التحدث إلينا قد يعود بالنفع على الآخرين الذين ما زالوا يعملون في قطاع الاتصالات العراقي. سألَنا عمر عما إذا كنا نعتقد أنه قد قدم لنا شيئاً مفيداً، فأخبرناه أن كل ما يمكننا فعله هو سرد قصته، ونأمل أن تؤدي إلى التغيير.

اقترحنا على عمر تغطية نفقات رحلته من الموصل، لكنه رفض رفضاً قاطعاً.

وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أرسل إلينا صوراً لأصدقائه مستلقين بلا حول ولا قوة في أسرَّتهم في المستشفى.

إقرأوا أيضاً: