fbpx

يوم هزمنا الأسد… سلاماً على لقمان وأخي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ مقتل أخي في إسطنبول وأنا اثنان، واحدٌ مهزوم بمقتل أخي وخراب مديننتا حلب ونحر الثورة السورية، وآخر منتصر بهروبه وملجأه الأوروبي الآمن وحرياته التي انتزعتها بكدّ ووحشة تكادان تشبهان الهزيمة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل نحو العام قُتل الكاتب والناشر اللبناني لقمان سليم فكتبت مقالاً حسبته يفكّ عزلتي عن الكتابة باللغة العربية، لكنّه عمّقها. هي عزلة ألازمها وتلازمني منذ مقتل أخي في إسطنبول قبل ثلاث سنوات من الآن. لا أحد يدري حتّى الآن إن كان مقتلاً أو انتحاراً أو وفاةً. 

لا أحد يدري ولا أحد يهتم. فما الفرق؟ 

الميتون فرادى وجماعات بين السوريين وغيرهم من شعوب شرق أوسطنا البائس لا حصر لهم يومياً ولا عدّ. وأنا أيضاً لا أهتمّ منذ يومها لا بالكتابة ولا بسواها. أكتب فقط ما يتطلبه عملي مني بلغة هولندية أعيش منها وبين أهلها وأستطيع فيها أن أقول أي شيء دون أن أشعر أنّني فعلياً قلت شيئاً. 

منذ مقتل أخي في إسطنبول وأنا اثنان، واحدٌ مهزوم بمقتل أخي وخراب مديننتا حلب ونحر الثورة السورية وبقاء بشار الأسد على رأس سلطةٍ تشبه كلّ ما أخافه وما فتئت أهرب منه طيلة حياتي، وآخر منتصر بهروبه وملجأه الأوروبي الآمن وحرياته التي انتزعتها بكدّ ووحشة تكادان تشبهان الهزيمة. 

كنت لأودُّ لو لم يمت أخي. كنت لأودّ أشياء أخرى كثيرة ليس لي عليها سلطان. كأنني استطعت أن أكون ما أنا عليه بين أهلي وفي وطني. لكن هذه أمنيات سوريالية تماماً. يكفي أن أرى الأطفال السوريين في مخيمات اللجوء بين إدلب وعرسال تحت الثلج لأتأكّد كم هي سوريالية. أيضاً بقاء بشار الأسد في قصره حتّى اليوم يؤكّد لي ذلك. هذا لم أعد أسمّيه ظلماً. فالظلم مهما كان قاسياً يظلّ يحتمل معنى ما قابل للتأويل على أنّه ضوء في آخر النفق أو أي شيء من قبيل هذه الكليشيهات التي لا ترمّم أي تفصيل في ذاكرة أي طفل سوري على هيئة أخي يمشي الآن حافياً في هذا المخيم أو ذاك. هذا كلّه أسمّيه الآن ألماً. إنه ألم مجاني رخيص لا يسمن ولا يغني من جوع أحمله معي هنا حيث هربت وحيث أعيش حرّاً، فيدفعني أحياناً للعيش أكثر حرّيةً وسعادةً، وينتشلني مرةً أخرى ليكبلني وحياتي وحرياتي ويقلّم أظافري التي لطالما حاربت بها بشراً وحجراً، لأصير ما أريد. وفي هذا كلّه لا أكون أقلّ من الآخرين ولا أكثر منهم. لا في حريّتي ولا في هزيمتي ولا في انتصاري. في هذا كلّه أكون فقط ناجياً. وللنجاة كم أعاين وأعيش وأرى أثماناً يظلّ يدفعها الناجون كل يوم من أيّام نجاتهم. كلّ يوم من جديد. عنهم وعن أولئك الذين لم يتمكنوا من النجاة. 

كنتُ لأودّ أيضاً لو أنّني رغم هذا الذي حصل ويحصل، ظللت أكتب بهذه اللغة ولأهلها. لكنّ هذه اللغة هي التجلّي الكامل لهزائمي جميعها. ثمّ ما الذي نلته منها وبها؟ القمع، الأغلال، الخوف، الدم، النبذ، الطرد؟ وأنا لم أعد أريد هذه الهزيمة. أرفضها حتّى وإن كانت مستقرّة في كل خلية في جسمي. أرفضها حتى وإن كنتُ لأودّ لو أنّني كتبت بها رسالة أخيرة لأخي تمنع عنه وعنّا هذا الموت كلّه. 

أمّا في لغتي الهولندية فأكتب ما حصلت عليه في هذه البلاد منذ لجوئي إليها قبل سنوات من حقوق وما أمارسه فيها من حريّات وما أحصل عليه من احترام، حتّى من أعتى رافضي وجودي في هذا البلد. احترام وحقوق وحريات. هي في اللغة العربية كلمات. كلمات جارة ومجرورة ومضافٌ إليها. أمّا في اللغة الهولندية فهي حياة. حياتي من الصباح إلى المساء. فعندما أقول أنني حرٌ باللغة العربية أحس كما لو أنّني أكتب جملةً اسميةً بخبر محذوف. أمّا عندما أكتبها أو أقولها بالهولندية فإنني أضيف خبراً إلى جمل اسميّة ناقصة فيّ بلا نهاية. 

وأكثر ما تجلّى هذا، كان يوم حصولي على الجنسية الهولنديّة في خريف العام الماضي بعد ست سنوات من اللجوء. يومها خاطبتني الموظفة التي ستسلّمني الجواز الهولندي: سيدي، لقد أصبحت هولندياً، لا داعي لهويتك الموقّتة بعد الآن. نظرت حولي فوجدتني المخاطب الوحيد. لقد تلبّسني شعور بالفخر والأمان والحرية لم أعرفه في حياتي قبل أن آتي إلى هذه البلاد. وتذكّرت بلاد الذلّ التي ربينا فيها تحت حكم الأسدين، الأب والابن وأسفت لأخي وللغتي ولناسنا جميعاً. لم نعرف هزيمة أكبر من حكم الأسد. هذه الهزيمة هي أمّ هزائمنا جميعها. وجواز سفري الهولندي هو وثيقة انعتاقي من هذه الهزيمة ومن سطوة هذا النظام وسطوة مجتمعي المحافظ الذي لم يقبلني حراً ومختلفاً.  

واليوم في الذكرى السنوية الجديدة للثورة السورية المنسيّة هي وأهلها ومصائرهم وبعد أيّام من ذكرى مقتل لقمان سليم وقبل أيّام من ذكرى مقتل أخي في إسطنبول أعود إلى هذه اللغة بلا تطلعات ولا أمانٍ. أعود مرة أخرى أخيرة لأقول أنّني أعيش هنا كما وددت دوماً أن أكون، كما أنا، وأنّني حرّ وهذا خيرٌ جزيل! 

إقرأوا أيضاً: