fbpx

نينوى المنتصرة على “داعش”:
فساد عقاري وفوضى صحيّة برعاية الميليشيات “البديلة”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يعد سراً في نينوى أن الحشد الشعبي له علاقة بالفساد المنتشر في الدوائر الحكومية، وان تجنب الأهالي والمعترضين على المؤسسة الحكومية الإفصاح عن ذلك علانية يأتي نتيجة خوفهم من سطوة الميليشيات وأبرزها عصائب أهل الحق والخراساني وسرايا السلام.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 أصدرت محكمة الجنايات في نينوى مجموعة أحكام بحق موظفي التسجيل العقاري، بتهمة التلاعب بسجلات عقارية والاستيلاء على أراض تابعة للدولة.

ويظهر في قرارات محكمة جنايات نينوى اسم المدانة نجاة حسين خليف الجبوري، بحكم بلغ ست سنوات. والجبوري كانت رئيسة جمعية “أم الربيعين” العقارية التي عرفت بارتباطها بالحشد الشعبي وقيامها بتزوير (ونقل) ملكية عقارات مملوكة للدولة لحساب نافذين في فصائل الحشد. 

بمتابعة أعمال جمعية “أم الربيعين” يظهر أن رئيستها كانت مرشحة في الانتخابات البرلمانية في أيار/ مايو 2018، على رغم وجود أمر قبض بحقها صدر في آذار/ مارس 2018 وفقاً للمادة 4 أولاً، من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.

مخلص جاسم (46 سنة) مدرس ثانوي من سكان الموصل، يشير إلى أن رئيسة جمعية “أم الربيعين” كانت تستولي على أراض واسعة للدولة، بتزوير ملكيتها، ثم تقطيعها وبيعها لأغراض السكن. 

ويقول واضعاً كفه على صدره، “أنا واحد من ضحاياها، دفعت لها 10 آلاف دولار لقطعة أرض اتضح لاحقاً أنها ملك للدولة، وهناك عشرات غيري، وبعضهم شيد مساكن والآن لم نعد نملك شيئاً وعلينا انتظار التعويض من المحاكم”.

بدأ تسليط الضوء على الموصل، مركز محافظة نينوى، وملفات الفساد المستشري في دوائرها بعد أقل من عامين على تحريرها من احتلال “داعش”، وعقب غرق عبّارة سياحية في نهر دجلة مساء 21 آذار 2019 كانت تقل نحو 200 مواطن توفي 120 منهم، غالبيتهم من الأطفال والنساء.

شنت بعدها هيئة “النزاهة” مدعومة برأي عام غاضب حملة اعتقالات شملت 20 موظفاً في ديوان محافظة نينوى وآخرين من دائرتي الماء والمجاري والتسجيل العقاري، بينهم 3 موظفات أطلق سراحهن لاحقاً بكفالة عشرة ملايين دينار ومنعن من السفر لحين انتهاء التحقيق. 

مع تراكم الشكاوى والأدلة وتوالي التوقيفات ظهرت كبرى ملفات الفساد في دائرة التسجيل العقاري الأيسر أو كما تعرف شعبياً بـ”طابو الزهور”، إذ كشفت التحقيقات الأولية التي أجريت عن تلاعب وتزوير في سجلات نحو 9000 عقار، بينها عقارات تابعة للدولة. وهذا ما قالته النائبة بسمة بسيم وأكده زميلها عبد الرحيم الشمري موضحاً أن قسماً من تلك العقارات تعود ملكيته لمسيحيين يقيمون خارج العراق. 

وقال الشمري، “المزورون انتعشوا في نينوى خلال الفترة الماضية لكونهم كانوا فوق القانون ويستطيعون فعل ما يريدون”.

وأشار النائب ضمناً إلى الميليشيات النافذة في الموصل والتي فرضت سطوتها بعد تحريرها من “داعش” صيف 2017 بقوله “الناس يعرفون من يقف وراء المزورين لكن لا أحد يجرؤ على ذكرهم”. 

في نهاية آذار 2019، قامت قوة من عناصر التحقيق القضائي وجهاز الأمن الوطني باعتقال مدير التسجيل العقاري فرحان حسين طه أحمد، بتهمة التلاعب بمستندات عقارية لأراضٍ تابعة للدولة، مستخدماً أختاماً مزورة بمعاونة موظفين من الدائرة نفسها.

وأصدرت محكمة جنايات نينوى/ الهيئة الثالثة برئاسة القاضي أكرم خلف حسين في 11/4/2019 قرارها بالدعوى المرقمة 126/ جلد 3/2018، متضمناً السجن لخمس سنواتٍ وشهر واحد، ضد فرحان وفقاً للمادة (340) من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بإحداث الموظف أضراراً بأموال عامة موكلة إليه.

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\مدير طابو.jpg

كما أصدرت المحكمة نفسها حكماً جديداً ضده في آب/ أغسطس 2021 بالسجن لعشر سنوات ليصبح مجموع الحكمين خمسة عشر سنة وشهراً واحداً.

فرحان، كان تلقى من مرجعه وزارة المالية “عقوبة نقل” الى دائرة رعاية القاصرين مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لكن وقبل تنفيذ القرار تم اعتقاله وأدين.

بعد ذلك أتى مدير جديد للدائرة يدعى محمد حسين الأعرجي، لكنه اعتقل بعدها بأشهر مع تسعة موظفين آخرين ومعقبي معاملات عقارية، ثم أطلق سراحه لاحقاً بكفالة مالية ضامنة. يقول المحامي (ع.ب)، “كانت كفالة غريبة، فالمتهم ضبطت معه أختام مزورة”. 

ويستدرك، “الكفالة ربما أكدت الأحاديث التي كانت تشير الى أن مدير التسجيل العقاري محمد الاعرجي كان مدعوماً من فصائل في الحشد الشعبي وهي أصلاً التي عينته في منصبه على رغم عدم أهليته لذلك الموقع المهم والحساس لأنه كان موظفاً بدرجة مساعد مساح لا غير”.

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\نجاة حسسين.jpg

سجل من التزويرات

البحث في أعمال رئيسة جمعية “أم الربيعين” يكشف من جهة عن علاقات تربطها بالحشد، ومن جهة ثانية عن حجم الفساد الكبير في قطاع العقارات والذي كان يجري تحت رعاية جهات إدارية وسياسية نافذة.

مصدر في محكمة التحقيق الخاصة بقضايا الإرهاب قال إن رئيسة جمعية “أم الربيعين” اتهمت بالتجارة بالعقارات لمصلحة تنظيم “داعش” خلال فترة سيطرته على الموصل بعد 2014، ولتبييض سيرتها رشحت في الانتخابات البرلمانية في قائمة الوطنية التي يتزعمها البرلماني ووزير الزراعة السابق فلاح الزيدان.

وأدارت حملتها الانتخابية وهي في سجن التسفيرات في الموصل على أمل أن يساعدها الفوز بمنصب برلماني التخلص من عقوبة تصل الى الموت. وأثار انتشار صورها الدعائية في شوارع الموصل الرئيسة في ربيع 2018 موجة استياء شعبية وانتقادات لإجراءات مفوضية الانتخابات التي سمحت لمرشح متهم بالإرهاب بخوض الانتخابات.

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\نجاة -2.jpg

يضيف المصدر أن الجبوري “كانت تبيع العقار السكني أو الأرض ذاتها إلى أشخاص وحين تُطالَب برد الأموال أو تسوية وضع العقارات تقول بأنها منتمية لعصائب أهل الحق المعروفة بسيطرتها الأمنية في الموصل، وكان هذا يبدو واقعياً بالنسبة إلى كثيرين بسبب ظهورها المعتاد برفقة مجموعة مسلحين”.

وزير الدفاع السابق والنائب عن نينوى خالد العبيدي، تحدث في مقابلة لصالح تلفزيون “التغيير” بثت في 24 آذار 2019 عن نجاة الجبوري من دون أن يذكرها بالاسم صراحة، وقال إنها كانت تتحرك في الموصل بعد تحريرها من “داعش” وترافقها أرتال من السيارات التابعة للميليشيات خلال تجوالها بين الدوائر والمؤسسات الحكومية ومنها التسجيل العقاري لتسهيل إجراءات متعلقة بتجارتها الخاصة ببيع عقارات في الموصل وتأجيرها.

وقال إن قيادة العمليات في نينوى كانت على علم بذلك “لكن القوات المتنفذة (كما يصفها متجنباً ذكر اسم الحشد الشعبي) كانت تملك زمام الأمور هناك”.

وخلال تقصينا وجدنا أن اسم نجاة الجبوري يرتبط بقضايا تزوير وتلاعب بملكيات عقارات تعود للدولة، منها قطعة أرض تعود ملكيتها الى بلدية الموصل في منطقة جديدة المفتي (5422/6) مقاطعة 37.

يقول سمسار عقاري زودنا بصور من المستمسكات الخاصة بها، إن موظفين مدانين بالتسجيل العقاري مع رئيسة جمعية “أم الربيعين” تلاعبوا بأوراقها ونقلوا ملكيتها إلى اسم جمعية “الحدباء التعاونية” التي لم تكن تعلم بأمر التزوير، على حد قوله.

وحصلنا على كتاب موجه من دائرة التسجيل العقاري الأيسر إلى “شعبة النصر لمكافحة الإجرام” مؤرخ في 13/10/2020 وحمل توقيع مدير الدائرة إبراهيم حسين علي. أكد الكتاب ما أخبرنا به السمسار أن القطعة المرقمة (5422/6) وهي أرض سكنية ومساحتها 33 دونماً و16 أولكاً و61 متراً هي ملك لبلدية الموصل ومسجلة بالقيد المرقم 144 مايس 1986 جلد 619.

وبما أن الدونم بموجب التشريعات العراقية يعادل 2500 متر، وكل أولك يعادل 100 متر، فإن مساحة الأرض الكلية تبلغ 84161 متراً.

والتسجيل العقاري ذكر في كتابه “وجود تغيير في صفحة السجل أعلاه، حيث غيرت العائدية إلى جمعية الحدباء التعاونية للإسكان في الموصل، وهي صفحة مضافة إلى السجل، وهي مزورة وغير صحيحة”. 

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\عقرات جمعية الحدباء مهم.jpg
C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\عقارت نجة حسين فتحي.jpg

كما حصلنا على تعهد خطي موقع في 28/8/2019 من متهمين بينهم نجاة الجبوري، يقولون فيه إنهم يتحملون المسؤولية القانونية عن سلامة القطعة أعلاه وإرجاع المبالغ المالية التي تقاضوها من مشتري القطع، إذا ظهر خلاف ذلك. 

نجاة الجبوري، خسرت في حملتها الانتخابية التي قادتها من التوقيف عام 2018، لكنها خرجت بمساعدة جهات متنفذة بحسب مصادر أمنية تحدثنا إليها، لتزاول أعمالها وتتورط في مزيد من جرائم تزوير عقارات تعود ملكيتها للدولة.

بل إنها حاولت تجريب حظها الانتخابي مرة أخرى وهذه المرة مع قائمة الجماهير التي يتزعمها السياسي من محافظة صلاح الدين أحمد الجبوري المعروف بـ”ابو مازن”، قبل أن تقوم قوة من الاستخبارات بإلقاء القبض عليها في حزيران/ يونيو 2021 بتهمة التزوير والنصب والاحتيال. 

وفيما تنتظر الجبوري أحكاماً قضائية في 8 دعاوى أخرى بالتهم ذاتها، رفعها متضررون، أصدرت محكمة جنايات الموصل الأولى حكماً بالسجن 8 سنوات على رئيس الاتحاد التعاوني في نينوى نايف خضر بـ8 سنوات لقيامه بتسجيل أرض مساحتها 800 متر تعود لبلدية الموصل باسمه بعد تزوير أولياتها وتحويلها باسم جمعية “أم الربيعين” التي ترأسها نجاة الجبوري. 

وكانت الجبوري وشركاؤها يقومون أيضاً بالاتصال بعائلات كانت تملك أراضي اشترتها منهم الدولة في زمن النظام السابق قبل 2003 وخصصتها لتنفيذ مشاريع ذات نفع عام، فيقومون بمساعدة موظفين في التسجيل العقاري برفع إشارات الإطفاء عنها وكل ما يثبت نقل ملكيتها لدوائر كالبلدية على سبيل المثال وإعادة ترتيب أوراق العقار، كأنه ما زال في ملكية تلك العائلات ليقوموا بشرائها منهم وبيعها قطعاً سكنية عبر جمعية “ام الربيعين” وجمعية تعاونية أخرى اسمها “الحدباء”.

أراض أخرى تابعة لبلدية الموصل ودوائر حكومية أخرى كالآثار والتراث والزراعة، استولى عليها أشخاص مرتبطون بما يعرف بـ”المكاتب الاقتصادية” بعد تحرير المدينة بالكامل في 2017 ونُفذت أعمال تقطيعها وبيعها بمبالغ كبيرة لمواطنين.

والمكاتب الاقتصادية، هي أذرع تجارية اقتصادية للفصائل المسلحة التي قاتلت في نينوى، تشكلت من دون أي سند قانوني، من أجل تمكين تلك الفصائل المقربة من ايران من إدامة قوتها وتعزيزها عبر تمويل نفسها بشكل مستقل.

وضبط فريق من مديرية تحقيق نينوى مطلع عام 2021، 66 مُتَّهماً بالتجاوز على محرمات مدينة نينوى الأثرية التابعة لمديريَّة آثار نينوى، إضافةً إلى أراضٍ أخرى تقع على ‏أكتاف نهر الخوصر الذي يمرّ وسط الموصل.

مصدر في “النزاهة” أفاد بأن التحقيق أجري مع المتهمين استناداً لأحكام القرار (54 لسنة 2001)، مبيناً أن العدد الأكبر منهم كانوا اشتروا الأراضي من جمعيات اسكان وشيدوا عليها منازل، وقسم منهم تصرفوا بها بيعاً وبعضهم أنشأ مخازن ومحلاتٍ لبيع المواد ‏الإنشائيَّة.

تلك التجاوزات الكبيرة ما كانت لتحصل، بحسب متابعين للملف، من دون قوة ساندة مستفيدة ساهمت في تمرير وتغطية تلك العمليات.

إقرأوا أيضاً:

ملفات فساد أخرى 

لا تظهر بلدية الموصل دائماً كضحية في الملاحقات القضائية، ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2021 فتحت “النزاهة” تحقيقاً في عقد لمشروع بشأن تنظيف الساحل الايسر من مدينة الموصل أبرمته بلدية الموصل مع شركة محلية بمبلغ يقترب من 18 مليار دينار عراقي، أي أكثر من 12 مليون دولار. 

وقادت التحريات الى مجموعة مخالفاتٍ في العقد  المتضمن تنظيف الساحل الأيسر من النفايات، ونقلها إلى موقع للطمر الصحي. رجح موظف رفيع في ديوان المحافظة أن يكون بداية للكشف عن مخالفات أخرى كبيرة في عقود أبرمتها البلدية خلال السنوات الثلاث الأخيرة “فالملفات تسحب تدريجياً إلى العلن”. 

ومع التقصي في مزيد من الملفات بدت بلدية الموصل أيضاً في الواجهة بعد إحالة اللجنة الإدارية في محافظة نينوى أوراق نتائج تحقيقاتها الى النزاهة، بشأن تهم بالإهمال والتقصير وجهت الى عدد من الموظفين وفرض عقوبات إدارية عليهم. 

وجدنا بعد البحث أن الموضوع يتعلق بقطعة أرض خصصتها بلدية الموصل لأحد موظفيها بطريقة غير مشروعة، لأنها في الأصل مباعة لشخص آخر.

موظف في القسم القانوني في بلدية الموصل، رفض الكشف عن اسمه، ذكر أن العقوبات الإدارية الصادرة تمثلت بالإنذار وشملت موظفين كبار.

وقال الموظف إن بعضاً من المعاقبين إدارياً، يواجهون سيلاً من الدعاوى المحركة ضدهم من “النزاهة” بتهمة التزوير والتلاعب بملكية عقارات محددة. لكنه أشار إلى أن الكثير منهم “قاموا بمخالفاتهم تحت ضغط من شخصيات تابعة للميليشيات، ولم يفعلوا ذلك لمصالحهم الشخصية”.

بعض هؤلاء الموظفين متهمون بالتلاعب والمتاجرة بقطع أراض تعود ملكيتها لبلدية الموصل. وأصدرت دائرة التحقيقات في “هيئة النزاهة” بياناً بهذا الخصوص في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2020 اكدت فيه اعتقالها ثلاثة متهمين تلاعبوا بقطع أرض تابعة للبلدية وخصصوها إلى أشخاص مقابل مبالغ ماليَّةٍ خلافاً للضوابط والتعليمات.

الموظفون أقروا خلال التحقيقات بضلوع زملاء لهم في جرائم مماثلة، وإثر ذلك صدرت أوامر اعتقال شملت موظفين من مختلف الأقسام.

يرى النائب ووزير الدفاع السابق خالد العبيدي ومسؤولون آخرون، أن تلك الجرائم ما كانت لتحدث “لولا وجود جهات نافذة تقف خلف هؤلاء” تغريهم بالمال أو تضغط عليهم للقيام بتلك التلاعبات مع “تأكيد قدرتها في حمايتهم وتبرئتهم من أي تهم قد تطاولهم”. ويشير العبيدي إلى أن بعض المتورطين ربما في اشارة الى نجاة الجبوري “أوقفوا، ثم افرج عنهم، وعادوا لتنفيذ جرائمهم في مؤشر على حصولهم على ضمانات من جهات نافذة بحمايتهم من الملاحقة”.

إزاء توارد الأخبار بشأن قضايا الفساد، وتزايد اعداد الموقوفين بسببها في المؤسسات الحكومية في نينوى، وصف رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عمليات الملاحقة القضائية بالمعركة الطويلة ضد الفساد. وذكر في جلسة حكومية عقدها في نينوى يوم 16 آب 2021 بأنها قد تكون “أكبر من المعركة ضد تنظيم داعش”.

اختلاسات وتزوير في الوقف السني

لم يتوقف الفساد في محافظة نينوى وبالتالي نشاط “هيئة النزاهة” فيها، عند دوائر السجل العقاري والبلديات، بل امتد ليشمل ديوان الوقف السني، إذ اعتقلت في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 رئيس لجنة اعمار جوامع الموصل (مدير حسابات الوقف السني في نينوى) وعضوين من اللجنة (مدير الهندسة وموظف) وعثرت بحوزتهم على وصولات شراء وهمية ومزورة بلغت قيمتها نحو ملياري دينار ، 1371000 دولار. 

أظهر بحثنا عن مزيد من المعلومات في مقر الديوان، أن الموظفين المتهمين كانوا أنهوا منذ بعض الوقت حبساً لمدة سنة في دعوى فساد أخرى أدينوا فيها.  

وأبلغنا موظفون في الوقف السني، بأنهم كانوا على علم بوجود “شكوك وشبهات فساد” في أعمال لجنة اعمار الجوامع لأن “غالبية جوامع الموصل فيها مقاولون مسؤولون عن إعمارها أو ترميمها”.

يقول أحد الموظفين إن “غالبية الجوامع التي تضررت في الحرب تم اعمارها إما من قبل هؤلاء المقاولين أو بواسطة تبرعات المُحسنين”. 

قدمت جهات مختلفة منحاً مالية لإعادة إعمار الكثير من الجوامع المتضررة، فقد تبرعت الإمارات العربية المتحدة وتحت إشراف من اليونيسكو بإعمار الجامع النوري الذي كان يضم منارة الحدباء التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الرابع عشر.

ولم يكن لمديرية الوقف السني أي دور معلن في إعمار الجوامع باستثناء وضعها حجر الأساس عام 2017 لإعمار جامع النبي يونس (دمره داعش في تموز/ يوليو 2014) لكن من دون تحقيق شيء على الأرض وسط استياء أهالي الموصل الذين يعتبرون الجامع رمزاً يعتزون به منذ قرون.

ووجهت  “النزاهة” اتهامات بالفساد إلى مدير الوقف أبو بكر كنعان، كان آخرها قيامه بتعيين 250 موظفاً، يتقاضون أجوراً، لكنهم لا يحضرون فعلياً إلى وظائفهم المفترضة.

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\فصل مدير الوقف السني.jpg

يعلق الموظف، وهو مصدرنا داخل الوقف السني في نينوى، على فضائح الفساد في دائرته، بأنها “جزء من منظومة الفساد العام التي افرزها سوء الإدارة وعجز القانون وغياب المحاسبة نتيجة ضعف الحكومة وغيابها أحياناً، في ظل وجود قوة موازية لسلطة الدولة، قوة تجد نفسها فوق القانون”. 

الفساد في مديرية الصحة

لاحق الفساد أيضاً حبة الدواء في نينوى وتحديداً في القطاع الصحي، أحد أكبر القطاعات المتضررة من “حرب التحرير” حيث خرجت معظم مستشفيات الموصل عن الخدمة وأصبحت في حاجة إلى إعادة بناء كاملة او اعمار واسعة.

عام 14/6/2020 أصدرت محكمة جنايات نينوى حكماً بالحبس ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ ضد مدير صحة نينوى فلاح حسن عيسى بسبب قيامه بنقل مولد كهرباء ديزل من دائرته لاستخدامه الشخصي في منزله الكائن في حي المالية في الجانب الايسر للموصل.

مولد الكهرباء كان الخيط الأول للبحث عن حقيقة ما يتداوله موظفون في صحة نينوى بشأن علاقات تربط مدير صحة المحافظة بفصائل “الحشد الشعبي”، التي تدعمه ليبقى في منصبه، برغم تردي الواقع الصحي، وتحصل الفصائل في المقابل على نسب من مشاريع الصحة.

قدم المدير المتهم دفوعه بوساطة محاميه لمحكمة التمييز بأن مولد الكهرباء كانت قد تبرعت به منظمة معنية بحقوق الإنسان عام 2018 للمركز الصحي في منطقة المنصور جنوب مدينة الموصل. وأنه نقله إلى دار الضيافة التابع لمقر دائرته.

وبحسب القانوني سلام محسن، فإن دار الضيافة تعد جزءاً تابعاً للدائرة، لكن عملياً هي دار يسكنها المدير، لكن مع تقديم الأوراق المتعلقة بذلك تمت تبرئة المدير. 

المدير نفسه، وبعد فترة وجيزة، مثل أمام القضاء بتهمة قيامه بإخراج وافدين من الحجر الصحي دون إجراء الفحوصات الخاصة بفيروس كورونا وقبل انتهاء المدد المقررة للحجر. وتم إخلاء سبيله مقابل كفالة مالية.

وبعد أشهر وتحديداً في 16 تشرين الثاني 2020، قرر قاضي محكمة تحقيق نينوى المختص بقضايا النزاهة، إجراء تحقيقات وفقاً للمادة 340 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بعد رصد “هدر في المال العام” اكتنف عقد تجهزي دائرة الصحة بقناني الأوكسجين.

بحسب معلومات حصلنا عليها من متابعين للملف، فإن صحة نينوى أنفقت مبلغ 450 مليون دينار على شراء 2000 قنينة أوكسجين من أحد الموردين، في حين أن سعرها التقديري في السوق المحلية يبلغ (320) مليون دينار، أي أن هنالك مغالاة وزيادة في السعر بلغت 130 مليون دينار. 

وما زالت “النزاهة” تجري تحقيقاتها بخصوص هذا الملف وهو ليس الوحيد إذ لاحقت شبهات فساد مديرية صحة نينوى في قضايا أخرى.

وبحسب المصادر ذاتها، فإن دعاوى وأحكاماً قضائية ابتدائية واستئنافية صدرت ضد مدير صحة نينوى، لكنه ينجح في كل مرة بالحصول على قرار تمييزي.

وتوقع مصدر في محكمة استئناف نينوى الاتحادية، أطلعنا على نسخة من قرار الادانة، أن يحصل مدير الصحة على قرار استئنافي أو تمييزي يلغي هذا الحكم كما حدث في دعاوى أخرى. 

النائب عبد الرحيم الشمري ذكر أن مكتباً يقع في منطقة حي المثنى في الجانب الأيسر للموصل، يتبع لجهة تشريعية (تعمد عدم ذكر اسمها لكي لا تتقدم ضده بشكوى وفقاً لتعبيره) ويديره شخص يدعى حج أحمد يقوم بتحديد الجهات التي تحال اليها المشاريع في صحة نينوى. 

وقال إن هذا الشخص ليس من محافظة نينوى، ويتقاضى مبالغ العمولات في أربيل ويفرض مشتريات على دائرة صحة نينوى لا تحتاجها عملياً وضرب مثالاً على ذلك “فرض على الدائرة عقد شراء شامبو مضاد للقمل بمبلغ كبير، في حين أن نينوى تفتقر الى ابسط الخدمات الصحية ولا تتوفر في مستشفياتها الأدوية والمستلزمات الطبية”، في وقت يضطر أبناؤها للبحث عن العلاج خارج المحافظة.

إقرأوا أيضاً:

شبهات فساد وعباءة المحاصصة

النائب جواد الموسوي عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، طالب في شهر تموز 2021 وبكتاب رسمي وجهه إلى وزارة الصحة وديوان الرقابة المالية ومحافظة نينوى، برفع يد مدير صحة نينوى د. فلاح الطائي، وإحالته للقضاء بتهمة الفساد بمبلغ قدره خمسين مليار دينار، تعلق بتعاقدات لشراء أجهزة ومواد طبية وأيضاً رواتب موظفي دائرته غير المسلمة عن سنة 2017.

الموسوي قال إنه قدم الوثائق المطلوبة إلى القضاء وأن كل ما ذكره مدعوم بالأدلة القطعية التي لا تقبل الشك بأن مدير صحة نينوى متورط بالفساد. وأن الجهات التحقيقية تتابع الأمر عن كثب.

إثر ذلك، قدم محافظ نينوى نجم الجبوري، طلباً إلى وزير الصحة  لاستبدال مدير صحة نينوى، وصدر قرار بالفعل من الوزارة في 31 تشرين الأول/  أكتوبر 2021، لكنه لم ينفذ.

وكانت وزارة الصحة أعفت مدير الصحة من منصبه في 16/5/2019 لكنه عاد إليه مجدداً بعد فترة وجيزة من ذلك.  

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\أعفاء مدير الصحة.jpg

عدم تنفيذ القرار، عده متابعون لملف الفساد، مؤشراً على الشائعات التي تربط مدير الصحة مع قوى نافذة بحيث أن الوزير نفسه لم يستطع المساس بمنصبه. 

بعد التقصي عن سبب عدم تنفيذ قرار وزارة الصحة الأخير، وجدنا أن 25 نائباً من نينوى، يمثلون أحزاباً وتيارات مختلفة قدموا للوزير اعتراضاً موقعاً من قبلهم وطالبوه بالإبقاء على مدير الصحة واصفين محاولات استبداله بالمحاصصة الحزبية. 

C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\نواب 1.jpg
C:\Users\nawzat\Desktop\تحقيقا الفساد\نواب 2.jpg

عبارة رفض “المحاصصة الحزبية” التي ساقها نواب نينوى لتبرير ابقاء مدير الصحة، تتردد في معظم المؤسسات والدوائر الحكومية بالمحافظة.

الخبير السياسي عادل كمال يقول إن الوضع في الموصل، في مرحلة ما بعد داعش “يسير على هذا النحو، أحزاب متصارعة فيما بينها لتقاسم نسب من المخصصات المالية لمشاريع الاعمار، وهذا لا يقتصر على دائرة الصحة وحدها بل ينسحب على جميع الدوائر”.

ويذهب كمال إلى أن نواب نينوى مرتبطون بالأحزاب ذاتها المتصارعة على “المغانم المالية” وكل نائب تجده نشطاً في واحدة من الدوائر الحكومية ويركز نشاطه حولها، وذلك بدفع من مرجعه الحزبي، مشيراً إلى أنهم يتغافلون عن دور المكاتب الاقتصادية وفقاً لتعبيره. 

ويشير الخبير السياسي إلى أن معظم مدراء الدوائر الحكومية يتم استبدالهم بعد فترة وجيزة من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية “لأن الأحزاب الفائزة تتقاسم فيما بينها المناصب الوظيفية العليا. وهنا الموظف الصغير يقدم ككبش فداء عند اكتشاف ملفات فساد لا يمكن التغطية عليها، فيما الكبار المدعومون من قبل أحزاب وميليشيات يتنعمون بمناصبهم مع أنهم غارقون في الفساد”.

ويرجع عادل الصراع على إدارة صحة نينوى الى ما يمكن أن تجنيه تلك القوى من نسب مبالغ إعمار المشاريع المرصودة ضمن الميزانية السنوية “هذا يحدث، والمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية مدمرة، وما يعمل منها يفتقد للأدوية الرئيسية ومراجعوها يضطرون لشراء كل ما يحتاجونه من الصيدليات الخاصة تقريباً”.

عشرات الملفات وعجز عن ملاحقة الكبار

الصراع على مواقع المسؤولية لاغتنامها كمورد مالي يمكن كشفه عبر جولة صغيرة بين ملفات “هيئة النزاهة والقضاء” في نينوى حيث تتوالى الملاحقات بحق موظفين بوجود عشرات قضايا الفساد التي صدرت فيها أوامر قبض وأحكام قضائية، في حين أن هنالك مئات التحقيقات الجارية بشأن قضايا أخرى.

“لن يتم التقدم في كثير منها بسبب ما يمتلكه المتورطون فيها من نفوذ سياسي، خصوصاً المرتبطين بقيادات في الحشد الشعبي”، هذا ما يقوله محقق قضائي طالباً بإلحاح عدم ذكر أسمه.

المهندس الشاب ضياء حكمت، يلخص خيوط الفساد المنتشرة والمتشابكة في معظم دوائر الموصل بالقول: “عندما احتجت إلى الوظيفة دفعت مبلغاً من المال للحصول عليها، ودفعت لقاء حصولي على إجازة السوق وجواز السفر، ودفعت للموظف في التسجيل العقاري للحصول على صورة قيد أرض سكنية أردت بيعها، ودفعت للموظفين في دائرة الضريبة عندما روجت معاملة البيع”.

يتابع ساخراً: “حين رزقنا بطفلنا الأول في العام الماضي، كان علي أن أشتري كل مستلزمات إجراء العملية القيصرية بالمستشفى الحكومي من صيدلية أهلية، ولم يسمحوا لي برؤية طفلي إلا بعدما دفعت للممرضين في غرفة العمليات”. يقول ذلك، ليدل إلى أن فساد الموظفين في المحافظة بات حالة اعتيادية: “عليك أن تدفع دائماً لكي تنجز أمورك البسيطة والمعقدة معاً”.

يقول موظف يعمل في جهة أمنية في نينوى على شبكة الفساد في دوائر المحافظة، طالباً عدم الإشارة إلى اسمه، إن ما يتم رصده والتحقيق بشأنه من جرائم فساد “لا يتعدى نسبة الـ1 في المئة مقارنة بالجرائم التي تمضي دون حساب أو تلك التي يفلت مرتكبوها من العقاب بسبب حصانات يتمتعون بها”. 

ويعدد تلك الحصانات “ميليشيات الحشد الشعبي، جهات حزبية، جهات برلمانية، وحتى عشائرية”.

تلك الحصانات تشجع على استشراء الفساد حتى إن المسؤولين الحكوميين والمديرين العامين والقادة الأمنيين يتم تنصيبهم مقابل مبالغ مالية كبيرة تقدمها الجهات التي تقف وراءهم، بحسب الموظف الذي يقول إن احزاباً وجهاتاً سياسية بعضها تملك ميليشيات تأخذ نسباً من المشاريع الحكومية الممولة من ميزانية تنمية الاقاليم تتراوح نسبتها بين 10- 20 في المئة .

لا يمكن الحصول على أدلة من قسم العقود والمشاريع في محافظة نينوى تؤكد ما يزعمه الموظف، وذلك بسبب عقوبات إدارية سابقة صدرت ضد موظفين بعد تسرب وثائق تتعلق بمشاريع محالة مقابل نسب مالية لواحدة من تلك الجهات.

لكن بالعودة 15 عاماً إلى الوراء وتحديداً بعد تشكيل أول حكومة محلية في نينوى عام 2005 سنجد أن نسباً كانت تفرض على مبالغ المشاريع من قبل تنظيم “القاعدة” ومن بعدها “داعش” قبل سيطرته على كل شيء منتصف 2014.

وكانت تلك النسب بحسب تأكيدات موظفين من قسم المشاريع يعيشون خارج البلاد حالياً تتراوح بين 10 -20 في المئة من مبالغ المشاريع. الأمر ذاته يحصل اليوم، لكن لمصلحة المكاتب الاقتصادية التابعة لفصائل “الحشد الشعبي”.

هذا ما يشدد عليه صاحب شركة مقاولات محلية في نينوى، إذ يقول إن ممثلين عن المكاتب الاقتصادية يستثمرون أموالهم “وربما يبيضونها” في المولات والمطاعم: ” لديهم أيضاً حصص في الكثير من القطاعات، كالنقل والمنتجات النفطية والمنشآت السياحية”. 

تلك الاتهامات كانت تسمع بصوت خفيض أقرب للهمس من مرشحين للانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، لكن ذلك الهمس توقف مع انتهاء الحملات الدعائية، ولم نجد شيئاً في حوزة هيئة النزاهة تدلي به عن هذا الأمر.

لم يعد سراً في نينوى أن الحشد الشعبي له علاقة بالفساد المنتشر في الدوائر الحكومية ، وان تجنب الأهالي والمعترضين على المؤسسة الحكومية الإفصاح عن ذلك علانية يأتي نتيجة خوفهم من سطوة الميليشيات وأبرزها عصائب أهل الحق والخراساني وسرايا السلام.

لكن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي حصلت قائمته الانتخابية على أعلى المقاعد في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قالها وبوضوح في الكلمة التي وجهها يوم 18/11/2021 للكتل السياسية الخاسرة والتي تضمنت دعوته لحل الفصائل المسلحة الشيعية: “قوة المذهب لا تكون بفرض القوى والخلافات الطائفية وما يحدث في الموصل الجريحة باسم الجهاد أمر لا بد من وضع حد سريع له”.

بعدها بأيام قليلة، أرسل وفداً ممثلاً عنه إلى الموصل يرأسه حازم الأعرجي الذي ذكر خلال لقاء جمعه بمواطنين في جامع الباشا يوم الثلاثاء 30 تشرين الثاني، أن هناك “ميليشيات تسيطر على المدينة وتتاجر بها”، معبراً عن خشيته من أن يتسبب ذلك بعودة تنظيم داعش إن لم يتم وضع حد لذلك. 

وأضاف الأعرجي انهم لا يريدون أن تأتي أجهزة أمنية الى الموصل “من اجل تهريب الحديد والمواد الأخرى. علينا أن نكون داعمين لإصلاح واعمار المدينة”، ناقلاً عن الصدر قوله إن الموصل “تعاني منذ تحريرها، وهي واقعة بين فكين، فك الإرهاب وفك الفساد”. 

أنجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية

إقرأوا أيضاً: