fbpx

أيمن الذي أصبح أبي خطاب…
أطفال الإيزيديين في قبضة “داعش”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد نحو أربع سنوات من هزيمة التنظيم، ما زالت مشكلات الأطفال العائدين من الخطف ممن يحتاجون الى دعم نفسي ومادي مركونة جانباً، فيما يظل مصير مئات المفقودين مجهولاً، وتنتظرهم عائلاتهم طويلاً، على أمل العثور عليهم ذات يوم ربما في مخيم الهول أو في مناطق المعارضة السورية أو حتى في تركيا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أنجز التقرير بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية “نيريج”

“كانت أمي توقظني كل صباح وهي تداعب خصلات شعري لأذهب الى المدرسة. لطالما حلمت بذلك قبل أن أستيقظ على صراخ أبو عمر وأجد نفسي في معسكر أشبال الخلافة تنتظرني عقوبة غليظة إذا لم أسارع إلى اللحاق ببقية الأطفال الذين يتم تحضيرهم للقتال”.

قبل ذلك بأشهر كان أيمن خليل الذي بالكاد بلغ العاشرة من عمره يواظب على ارتياد مدرسته الطينية في مجمع سيبا شيخ خدر وكان في الصف الثالث، لكن كل شيء تغير مع دخول مقاتلي تنظيم “داعش” الى سنجار في الثالث من آب/ أغسطس 2014 وارتكابهم عمليات قتل جماعية وخطف بحق السكان.

في ذلك اليوم وقع أيمن مع 23 فرداً من عائلته في قبضة مقاتلي التنظيم، استرد 19 فرداً منهم حريتهم في أوقات متفرقة من حكم التنظيم لنينوى والأنبار ومساحات واسعة من سوريا، فيما بقي هو أسيراً طوال خمس سنوات يُنقل من مدينة إلى أخرى، وما زال أربعة من أفراد عائلته مجهولي المصير.

تركت تلك السنوات آثاراً عميقة في روح أيمن وجسده، تخشى عائلته التي كانت محظوظة بالعثور عليه في سوريا ودفعت مبلغاً مالياً كبيراً مقابل تحريره، أن تظل تلازمه كل حياته، فهي “محطات لا تمحى أبداً بما حملته من آلام وقصص مفزعة”، يقول أحد أصدقائه.

لا يذكر الفتى السنجاري، الذي يلتزم الصمت طوال الوقت ويفضل الانزواء والرد على الأسئلة بجمل قصيرة، الكثير من تفاصيل حياته قبل “الفرمان الأخير” على منطقة سنجار وسيطرة “داعش” عليها خلال ساعات بعد انسحاب القوات العراقية وقوات البيشمركة، تاركين الأهالي تحت رحمة تنظيم يعتبرهم كفرة وعبدة نار. يقول “بعد ساعات من تعالي أصوات الرصاص والقنابل عرفت عائلتي أن المنطقة سقطت وأن علينا الفرار. اتجهنا نحو الجبل بسيارة حوضية لكن في منطقة صولاخ تمت محاصرتنا وألقي القبض علينا، كان مجموعنا 18 فرداً اقتادونا الى تلعفر وهم يضحكون ويستهزئون بنا”.

يومها فر عشرات الآلاف من الايزيديين إلى جبل سنجار هرباً من عمليات التصفية، فيما نزح قسم من المسلمين الكرد عبر طرق عدة باتجاه الموصل ومناطق إقليم كردستان خوفاً على حياتهم وسط الفوضى، بخاصة أن كثيرين منهم كانوا ينتمون إلى قوات البيشمركة الكردية ويشكلون هدفاً مباشراً للتنظيم.

غير أن آلافاً آخرين من الايزيديين لم يجدوا الفرصة للهرب، ما أوقعهم بأيدي عناصر التنظيم الذي تصرف أمراءه وفقاً لاجتهاداتهم فمنهم من أباح قتل كل الرجال والفتية ومنهم من رأى امكانية دخولهم الإسلام، لكن الأمر انتهى في المجمل بعمليات تصفية وسبي وخطف، فقتل أكثر من 1300 أيزيدي خلال أيام وخطف أكثر من 6400 معظمهم من الأطفال والنساء.

بعيون دامعة يستذكر أيمن أيامه الأولى في الأسر، حين وجد نفسه فجأة وحيداً من دون عائلته، مجنداً في صفوف التنظيم: “وأنا في العاشرة من عمري أصبحت مقاتلاً في معسكراتهم، بعيداً من أمي وقريتي، أستيقظ فجر كل يوم على تهديداتهم إن لم نسارع في اللحاق بالتدريب”. 

لم يمنع صغر سنه وتوسلات أمه من فصله عنها. بعد أسابيع تم نقله الى معسكر لتدريب الأطفال يضم الى جانب الأطفال العرب عشرات الأطفال الايزيديين الذين كانوا يُهيأون ليصبحوا انتحاريين أو مقاتلين في الصفوف الأمامية.

مقاتلون وانتحاريون

يفتح هاتفه المحمول، الذي وضع اسم صديقه بيرهات (اسم كردي يعني الذكريات) كمفتاح سري له، وفاءً لذكراه بعدما فقده في إحدى المعارك التي خاضاها معاً في سوريا. يبحث بين الصور عن صورته عندما كان في قبضتهم هو ورفاقه من الأطفال المجندين.

لا يعرف أيمن مصير غالبية الأطفال الذين كانوا يتلقون معه التدريبات على السلاح الى جانب الدروس الدينية والعقائدية: “كانوا يقسموننا إلى مجموعات، ويأخذون بين فترة وأخرى بعضنا الى المعارك ليقاتلوا حتى الموت أو يفجروا انفسهم. بعضهم كانوا يختفون فجأة… ربما كانوا يعودون الى عائلاتهم مقابل أموال”.

لم يكن الأطفال جميعاً مجنّدين رغماً عنهم وعن عائلاتهم، فقد كان هنالك أطفال “متطوعون” ضمن صفوف التنظيم عرب وأجانب جاءت بهم عائلاتهم من مناطق متفرقة لأنها تؤمن بالقتال لتحقيق النصر أو دخول الجنة. طبعاً جميع الأطفال بهذا المعنى، الذين يزجّ بهم في القتال، مجبرون، إما من التنظيم وإما من عائلاتهم، و”كان من الصعب الاختلاط بهم فكنا في مجموعات متنافرة، نلتقي أثناء المعارك وحسب”، بحسب أيمن.

فيما كان الأطفال “المتطوعون” للجهاد يحظون باحترام كبير، كان الأطفال الإيزيديون يواجهون ألوان التعذيب الجسدي والنفسي: “ألزمونا بأداء الصلاة وحفظ القرآن ومتابعة دروس العقيدة إضافة إلى التدريب. وإذا غضبوا منا لأي سبب كانوا يصفوننا بالكفرة وأبناء الشيطان وعبدة النار وينهالون علينا بالضرب”. 

ما واجهه أيمن تكرر مع سفيان رشيد (20 سنة) وبرزان عيدو (16 سنة) اللذين شهدا كل أنواع التهديد والتعذيب في معسكرات التدريب والتأهيل الخاصة بالتنظيم سواء في نينوى العراقية أو في الرقة وديرالزور السوريتين.

إقرأوا أيضاً:

مختطفون ومفقودون

يصف باحثون إيزيديون ما كان يحصل في تلك المعسكرات، بأنه ليس مجرد سلب لحرية الإنسان في الحياة والمعتقد، بل تطويقه بظروف يصبح فيها خاضعاً تماماً، ومع الدروس الدينية المتوالية يتم غسل دماغه.

هذا تماماً ما حصل لأيمن الذي لم يستطع حتى بعد أكثر من عامين على تحريره،  نسيان ما تم تلقينه له: “لا أستطيع نسيان تلك الأشياء… لا أعرف، هل فتحوا رأسي أو أعطوني حبوباً معينة حتى تبقى في ذاكرتي؟ في بعض الليالي أراهم يعودون مجدداً، يجردونني من ثيابي ويضربونني وأنا أصرخ وأحاول الهرب”. يضيف وهو يسند ظهره بعمود خيمته: “في السنة الأولى بعد تحريري، كنت أستيقظ فجراً في أوقات الصلاة وأستمع إلى القرآن من دون أن يحس أحد بي، اعتدتُ على ذلك في سنوات التجنيد”.

تقدّر مديرية شؤون الإيزيديين في إقليم كردستان عدد الذين تم خطفهم بـ6 آلاف و417 إيزيدياً، بينهم 3 آلاف و548 من الذكور (رجال وأطفال) و2896 من النساء والفتيات بينهن قاصرات.

وتشير الى أن عدد المختطفين الذين تم انقاذهم يزيد على 3550، بينهم 1209 رجال، 339 امرأة، إضافة إلى 1049 طفلاً ذكراً و956 من الإناث، فيما لا يزال مصير 2763 مختطفاً مجهولاً، 1293 منهم من النساء والفتيات و1470 من الرجال والأطفال الذكور .

من سيبا شيخ خدر إلى الباغوز

بعيداً من مخيم النزوح في الشيخان، وذكريات سنوات الاستعباد التي لا تفارق أبناءه، بالكاد يذكر أيمن قريته سيبا شيخ خدر التي ولد وعاش فيها سنوات طفولته الأولى. لا شيء غير شريط متقطع من صور أمه ووالده وبعض أصدقائه وساعات لعبهم في أطراف المجمع الذي كان يضم نحو 30 ألف إزيدي لم يعد منهم أحد فالدمار يلف الى اليوم كل أرجاء المجمع. 

تعد سيبا شيخ خدر الخط الأول من المجمعات الايزيدية الكردية المقابلة للمناطق العربية، وهي إدارياً تتبع قضاء البعاج ضمن حدود تلعزير التي يطلق عليها رسمياً بناحية القحطانية، والتي أصبحت عقب سقوط نظام حزب البعث في 2003 ودخول البيشمركة إليها تتبع قضاء سنجار.

ذلك القرب من المناطق العربية، التي تضم بلدات وقرى عرفت طوال عقد التسعينات من القرن الماضي بانتشار السلفيين فيها، وتحولها بعد 2003 الى مركز للجماعات الاسلامية التكفيرية المناهضة للأميركيين ولنظام الحكم الجديد في البلاد، جعل من سيبا شيخ خدر ميداناً لتصفيات دموية وعمليات تدمير هائلة في ظل تهمتين جاهزتين في حقهم هما، انتماؤهم الديني الايزيدي وموالاتهم ككرد للبيشمركة.

الجماعات ذاتها كانت هاجمت في 14 آب/ أغسطس 2007، بأربع شاحنات مفخخة، مجمعي سيبا شيخ خدر والقحطانية، ما خلف دماراً هائلاً وأدى إلى مقتل 320 شخصاً وإصابة 1200 من الايزيديين تقريباً. لكن هجومها في آب 2014 كان مختلفاً، فقد هاجم مقاتلون متشددون من العرب والتركمان البيوت الايزيدية في كامل سنجار. شهدت الساعات الأولى عمليات اعتقال وقتل جماعية، ثم عمليات نهب واسعة. وفُصل لاحقاً الأطفال عن عائلاتهم.

تروي الكاتبة المهتمة بالشأن الإيزيدي حليمة حسن تفاصيل ما حدث: “كانت تلك ساعات اللقاء الأخيرة لمئات الأمهات مع أبنائهن الذين فُقِدوا الى الأبد. ساعات مملوءة بقصص الإعدامات الفورية والغياب الأبدي والتوسلات والصرخات والدموع”. وتضيف، “تحدث المجتمع الايزيدي كما الدولي عن الفتيات، لكنه تناسى مئات الأطفال الذكور مجهولي المصير. معظمهم ربما اليوم يعيشون ضمن عائلات داعشية، ويتربون على عقيدة الجهاد والانتقام”.

ذلك الطفل الأسمر، الذي انتزع من عائلته وقريته ومحيطه، لم يكن يعرف يومها غير اللغة الكردية والدين الايزيدي، وأصبح لزاماً عليه اعتناق دين آخر والتحدث بلغة أخرى وتقبل ثقافة مجتمعية مغايرة لكي يبقى حياً.

بعد أشهر من “يوم الفرمان” (الاسم الذي يطلقه الإيزيديون على غزو داعش مناطقهم) تحول الطفل الايزيدي أيمن في سجلات التنظيم الى الفتى المجاهد “ابو معاوية” الذي يرتدي الملابس الأفغانية. فذلك الاسم هو ما اختاره له ابو عمر المصلاوي الأمير في التنظيم الذي كان مسؤولاً في المعهد الشرعي في البوكمال السورية.

إقرأوا أيضاً:

يتذكّر أيمن: “بعد الخطف نقلت الى المعهد الشرعي في تلعفر، بقيت فيه أكثر من عام مع حوالى 300 طفل ايزيدي آخر من مختلف الأعمار، كنا جميعاً نتلقى دروساً في القرآن والعقيدة والقراءة والكتابة والآداب الإسلامية”.

بعدها نُقل الفتى إلى الموصل لتحضيره لمرحلة ما بعد الدروس الدينية “عشت هناك مع أطفال آخرين في منزل كبير من طبقتين، كان الخروج منه ممنوعاً علينا، كان يفترض تحضيرنا للعمل الجهادي، لكن محيط المكان تعرض للقصف أكثر من مرة، فنُقلنا بسيارات كبيرة الى سوريا وهناك وزعونا على معسكرات تدريبية وعلى أمراء التنظيم”. 

في سوريا، تدرب ايمن على استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة الى جانب العبوات الناسفة في أكثر من أربعة معسكرات متفرقة يذكر منها “معسكر ابو علي، ابو بكر، ابو مصعب الزرقاوي، ومعسكر عمر الشيشاني”. كما عمل في المطبخ على إعداد الطعام “كان هنالك جدول محدد للتدريب، ومواقيت للأكل صباحاً ومساء،  إضافة إلى دروس توجيهية. وكان علينا الالتزام بكل التعليمات فالتعذيب ينتظرنا عند أصغر مخالفة”.

لم يكن أيمن قد أكمل عامه الثاني عشر حين اقتيد إلى جبهات الحرب، واشترك في بعض المعارك: “كانوا يكلفوننا بواجب محدد، كأن نطلق النار على هدف ما أو نراقب موقعاً معيناً… أنا نجوت من الموت، لكن آخرين لم يعودوا أبداً… هناك فقدت خمسة من رفاقي الايزيديين”.

لا يعرف أيمن مصير مئات الأطفال الايزيديين الآخرين الذين رافقوه في تلعفر والموصل ودير الزور والرقة فقد تفرقوا بعدما وزعهم عناصر التنظيم بين المعسكرات وفي بيوت الأمراء.

ولم يصدق أبداً أنه سينجو من جحيم المعارك المتوالية والقصف الذي كان يشتد عليهم شهرا بعد آخر، لكن القدر كتب له أن يعيش حتى آخر معارك التنظيم قبل انهياره الكامل في الباغوز في دير الزور السورية. 

معسكرات بمهمات متعددة

يقول الباحث في الشأن الإيزيدي حسو هورمي، الذي ألف كتباً عدة عن منهجية التنظيم في التعامل مع الاإزيديين بما فيهم الأطفال المخطوفون، إن “داعش أنشأ معسكرات أُطلقت عليها تسمية أشبال الخلافة، اتسمت بتنظيمٍ عالي المستوى، اعتمد برامج خاصة بتدريب الأطفال وتحضيرهم، تجعلهم ينقطعون تماماً عن ماضيهم، ويصبحون في النهاية مقاتلين مخلصين ينفذون الأوامر”.

يضيف هورمي: “كان يتم تحضيرهم نفسياً وجسدياً لخوض غمار الحرب وحتى القيام بالعمليات الانتحارية. لكن لم تكن هذه هي المهمة الوحيدة التي يستعدون لها، بل أيضاً التدرب على تولي مهمات ااستخبارية لمصلحة داعش وكان يُطلق عليهم اسم (العيون)”.

ويحدد الباحث أسماء وأماكن أبرز معسكرات تدريب الأطفال والفتيان في “دولة الخلافة” وهي “السلامية، نمرود جنوب شرقي الموصل. معسكر الغزلاني وسط الموصل، معسكر الحضر جنوب الموصل، معسكر تلعفر غرب الموصل في العراق، معسكر أشبال الفاروق، معسكر الخليفة، معسكر الشريعة في الرقة السورية”.

امتدت ساعات التدريب في تلك المعسكرات بين 8 و10 ساعات يومياً، واشتملت على تدريبات اللياقة البدنية واستخدام السلاح والتصويب واستهداف الخصوم في مواقف مختلفة، الى جانب أساليب استخدام المتفجرات، وااقتحام الثكنات العسكرية والأبنية السكنية.

وكان الأطفال يتلقون في تلك المعسكرات دروساً مكثفة عن القرآن والشريعة الإسلامية ضمن مسار التوجيه العقائدي الداعشي، الذي يفرض قتال المرتدين وتطبيق الشريعة ومبايعة الخليفة، الى جانب مشاهدة فيديوات عمليات النحر التي يقوم بها التنظيم بحق المخالفين لأفكاره، وكان يصطحب أحياناً الأطفال لمشاهدة عمليات الإعدام مباشرة من عمليات قطع للرؤوس والرجم والإلقاء من بنايات عالية.

وبحسب هورمي فإن “التنظيم حاول عبر تلك الدروس، وعبر التشجيع والترغيب وأحياناً التهديد والضرب، غسل أدمغة الصغار وغرس مبدأ الجهاد في عقولهم ونجح في ذلك بحالات كثيرة، ونتيجة ذلك نراها في عمليات القتل والانتقام اليومية التي تقع في معسكر الهول بسوريا”.

من مختطفين إلى مقاتلين وانتحاريين

عام 2017 ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو صوّره تنظيم “داعش” للطفلين الإيزيديين المختطفين ايمن وامجد الياس، وهما من مواليد تل قصب جنوب سنجار، عقب تنفيذهما عمليتين انتحاريتين في الموصل، بعد تلقي تدريبات مكثفة في معسكرات التنظيم خرجا منها “مجاهدين” بحسب التنظيم، وحملا اسمي “ابي خطاب وأبي يوسف”.

خطط التنظيم الأمر نفسه مع مئات الأطفال الايزيديين الذين أخضعوا لما يصفه باحثون بـ”عمليات غسل للأدمغة” يفترض ان تنتهي بإنكار ماضيهم وتكفير عائلاتهم السابقة ونبذ الديانة الايزيدية والاستعداد لأي فعل “يقربهم من الجنة”.

يسرد سفيان رشيد الذي اختطف من منطقة صولاخ (2 كلم شرق سنجار) حين كان في الرابعة عشرة من عمره مع أقربائه وشقيقه الأصغر، وأُلحِق بمعسكرات الأشبال، فصولاً من معاناته خلال السنوات الخمس التي أمضاها مسلوب الحرية: “فصلوني عن عائلتي واقتادوني الى تلعفر وهناك اجبروني على النطق بالشهادتين واعتناق الإسلام. وبعد أشهر من الجوع والألم والخوف من مصيرنا المجهول إذا كنا سنُقتل أم يفرج عنا، أدخلوني الى معسكر تدريبي في الموصل مع إيزيديين آخرين ولاحقاً في سوريا”.

يواصل رشيد الذي أطلق عليه اسم “أبوعائشة السنجاري” حكايته: “خلال سنتين درّسونا أسس الدين الإسلامي، وقالوا لنا إنه الدين الحق وإن اعتناق أي دين آخر سيكون مصير صاحبه النار. لم نفهم الكثير مما كان يقال لكننا كنا نحفظه ونردده تجنباً لمعاقبتنا وتعذيبنا”.

يشير رشيد الى أن التعاليم الجديدة كانت تجد طريقها إلى عقول بعض الأطفال ويؤكد ان كل ذلك لكي نكون جاهزين للجهاد. ويضيف: “حين أمروني بالمشاركة في المعارك رفضت، فتعرضت للتعذيب”.

في خريف 2017، تعرض المكان الذي كان فيه رشيد في منطقة الرقة السورية إلى هجوم بالصواريخ، أصيب خلاله بجروح بالغة ونقل للعلاج في أحد مستشفيات التنظيم، لكن الفريق الطبي هناك عجز عن إنقاذ قدمه اليمنى ما اضطرهم الى بترها: “في فترة العلاج تعرفت إلى شخص كردي وتمكنت بمساعدته من الهرب، كان ذلك في نهاية عام 2017 حين التقيت ببقية افراد عائلتي ممن نجوا من الابادة. في الخيمة الصغيرة التي جمعتنا اختلط الفرح بدموع حزنهم على حالتي وفقداني ساقي”.

كتب لأيمن وسفيان، النجاة من الموت والتحرر من “داعش”، لكن مئات آخرين من الأطفال الايزيديين ما زالوا مختطفين أو قتلوا في المعارك التي أُجبروا على خوضها أو خلال عمليات القصف الشديدة.

مجهولو المصير

بحسب نشطاء ايزيديين ومنظمات تعمل في مجال التوثيق، وقع أكثر من 1700 طفل ايزيدي من الذكور (من مجموع 6417 إيزيدياً مختطفاً) في قبضة التنظيم أثناء غزو مدينة سنجار، تم تحرير نحو 950 منهم وما زال مصير البقية غير معروف، وتحاول عائلاتهم وبدعم من مؤسسات رسمية تحريرهم أو معرفة مصيرهم.

يقول الناشط برجس خضر (35 سنة) محاولاً تفسير “غياب” هؤلاء الأطفال بعد سنوات من تدمير التنظيم: “تم غسل أدمغة معظم الأطفال في معسكرات أشبال الخلافة التي انتشرت في نينوى ومناطق سورية مختلفة. نعم هناك أطفال قتلوا بعد زجهم في القتال لكن آخرين أخذتهم عائلات عربية في سوريا وأخرى تركمانية فرت الى تركيا”.

ويؤكد برجس الذي يعمل منذ سنوات على تحرير المختطفين، انه يملك معلومات ووثائق عن الأطفال المختطفين وتسجيلات صوتية تبين أن كثراً منهم موجودون في مخيم الهول وفي مناطق مختلفة في سوريا وتركيا: “نعمل مع الجهات المعنية على تحريرهم، على رغم صعوبة ذلك فقد اندمجوا في عائلات جديدة ومر على وجودهم فيها سنوات”.

برجس الذي زار أكثر من مرة مخيم الهول منذ تحرير الباغوز، بحثاً عن الأطفال المفقودين بعدما جمع معلومات عنهم وعن أماكن ظهورهم الأخيرة، تمكن خلال نحو ثلاث سنوات من تحرير أكثر من 100 طفل، لكن عمليات التحرير تباطأت وأصبحت أصعب مع مرور الوقت. يقول بشيء من اليأس: “كل يوم يمر تصبح المهمة أصعب”.

يحصل برجس ونشطاء آخرون مع “مؤسسة تحرير المختطفين في اقليم كردستان”، على المعلومات عن الأطفال المختطفين من مصادر مختلفة بينها أولئك الذين يتم تحريرهم بين فترة وأخرى. 

ويرى مكتب إنقاذ المختطفين أن نجاحهم في تحرير البعض حتى في الأسابيع الاخيرة ونجاح آخرين في الفرار من عائلات التنظيم، يؤكد وجود مئات آخرين على قيد الحياة في ظل ظروف لا تسمح لهم بكشف هوياتهم الحقيقية، ما يتطلب تكثيف الجهود لإنقاذهم.

تركيا ومخيم الهول

تؤكد نوفة خلف (25 سنة) التي تحررت في حزيران/ يونيو 2020 من مخيم الهول، تلك الحقائق: “رأيت الكثير من الأطفال الإيزيديين في مخيم الهول مع عائلات عربية، بعضهم كان مكان وجودهم معروفاً لدي حتى يوم خروجي، لكن آخرين تم تغيير أماكنهم. لا أعرف ربما نجحت عائلاتهم في الفرار إلى أماكن أخرى”. وتضيف: “هناك عائلات استخدمت الأطفال خدماً لها حتى في داخل المخيم. بعضهم يبدو أنه نجح في الخروج، سمعت من جيرانهم انهم توجهوا الى تركيا، بخاصة العائلات العراقية التي كانت مع داعش”.

عيدو كوجو (40 سنة) وهو إيزيدي نازح في دهوك فقد عدداً من أقربائه خلال الغزو، يقول إنه حصل على معلومات عن ابن شقيقه المخطوف “سمعت انه في تركيا لدى عائلة أمير داعشي فر من سوريا. وبعد متابعة استمرت لأسابيع ودفع مبلغ مالي لأحد المتعقبين، اختفى الأمير ولا نعلم أي شيء عن طفلنا الذي كان معه منذ سنوات”.

ينقل كوجو أرقاماً لم نستطع التحقق منها تشير الى تمكن ايزيديين (عائلات ونشطاء) من تحرير حوالى 50 طفلاً من تركيا خلال ست سنوات. ويعرب عن قناعته بوجود مئات آخرين هناك سواء مع عرب من أمراء “داعش” الفارين او مع عائلات من تلعفر، مطالباً الحكومة العراقية بمساعدتهم لانقاذهم واستعادتهم من تركيا.

ما يؤكد كلام عائلات المختطفين، استعادة حكومة إقليم كردستان طفلين ايزيديين من قرية وردية في سنجار، كانا ظهرا في دار للأيتام في تركيا قبل ثلاث سنوات بعدما تخلت عنهما كما يبدو “العائلة الداعشية” التي تبنتهما بعد فرارها من سوريا.

تسليم الطفلين تم بشكل رسمي خلال زيارة رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني إلى تركيا في أيلول/ سبتمبر 2020، حيث أعاد الطفلين معه إلى الاقليم في ختام الزيارة.

وبحسب إحصاءات ايزيدية فإن حوالى 1300 إيزيدي فقدوا حياتهم خلال اليوم الأول من اجتياح سنجار، دفن معظمهم في نحو 80 مقبرة جماعية، ومات المئات في الأيام التالية، وأدى الهجوم الى تيتّم 2745 طفلاً إيزيدياً من ناحية الأب .

معاناة ما بعد التحرر

على رغم تحرير مئات الأطفال الإيزيديين، ممن أمضوا سنوات مع عوائل داعشية بسبب صغر أعمارهم، أو أُلحقوا بمعسكرات الخلافة، فإن معاناتهم ومعاناة عائلاتهم لم تنته بعد، “فكوابيس حياتهم السابقة وتعاليمها وعاداتها، ظلت تلازمهم، وسنوات التعذيب ومرارة فقدان أحبتهم لم تفارقهم، وأحالت حياتهم الى قلق وألم دائمين”، بحسب ناشط ايزيدي شهد معاناة الكثير من العائدين. يقول، مفضلاً عدم ذكر اسمه: “أغلبهم غريبون في سلوكهم، انطوائيون أو سريعو الغضب تراهم عدوانيين، يقومون أحياناً بالاعتداء على أفراد عائلاتهم ومن يعيشون معه في المخيم. أعرف أكثر من واحد ينام وتحت وسادته سكين أو آلة جارحة ربما تخوفاً من حصول شيء”.

يقول جلال فارس شنكالي (40 سنة) وهو أب لثلاثة أطفال تعرضوا للخطف: “أطفالي بعد تحريرهم وعودتهم كانوا عدوانيين جداً. أتفهم أنهم عاشوا حياة صعبة وواجهوا الكثير من الويلات خلال فترة اختطافهم ودخولهم لمعسكرات الخلافة حيث غُسلت أدمغتهم فتحولوا إلى أشخاص آخرين”. يضيف: “كانوا قد نسوا لغتنا فيتكلمون اللغة العربية، ويمنعون الناس من زيارتهم ولا يردون على أسئلتهم، وكان أصغرهم يتحدث دائماً عن القتل وقطع الرؤوس ويقوم بحركات مخيفة، ويتحدث خلال النوم والكوابيس لم تكن تفارقه”.

يوضح الخبير النفسي فراس سليمان، الذي يتابع معالجة نساء وأطفال إيزيديين بعد تحريرهم، أن هؤلاء عاشوا حياة غير طبيعية مملوءة بالمواقف القاسية والذكريات المؤلمة ويحتاجون الى متابعة دائمة: “سلوك كل طفل يختلف عن الآخر، لكن عموماً هم عدوانيون بسبب قساوة البيئة التي عاشوا فيها، وهم متأثرون جداً بالأسلحة التي رافقتهم سنوات طويلة وشكلت لديهم رمزاً للقوة، وهم يميلون إلى العنف والمشكلات ويريدون السيطرة على كل شيء”.

وعلى رغم حاجة هؤلاء الأطفال إلى برامج إعادة تأهيل، إلا أنها لا تتوفر لهم بحسب سليمان: “لا يوجد برنامج خاص لمعالجة الاضطرابات الشخصية أو السلوكيات غير السوية التي يعانون منها، ولإعادة دمجهم في المجتمع مرة أخرى. هناك اهمال حكومي واضح وعجز من المنظمات، وبالتالي على العائلة التكفل بذلك لتمكينهم من تجاوز الصدمات التي عاشوها”.

بعد نحو أربع سنوات من هزيمة التنظيم، ما زالت مشكلات الأطفال العائدين من الخطف ممن يحتاجون الى دعم نفسي ومادي مركونة جانباً، فيما يظل مصير مئات المفقودين مجهولاً، وتنتظرهم عائلاتهم طويلاً، على أمل العثور عليهم ذات يوم ربما في مخيم الهول أو في مناطق المعارضة السورية أو حتى في تركيا.

يأمل أيمن خليل الذي يعيش اليوم في مخيم ايسيان للنازحين في قضاء الشيخان جنوب محافظة دهوك، أن يتخلص من كوابيسه وآلامه التي زرعها التنظيم في صدره، وينتظر بفارغ الصبر تلقي تأشيرة السفر للهجرة مع عائلته تاركاً خلفه كل الذكريات المؤلمة ليبدأ حياةً جديدة. 

إقرأوا أيضاً: