fbpx

“موالح “:  ذاكرة مثليّة من بدايات الثورة السوريّة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نستعيد هنا تجربة “موالح” وما نشر فيها من قصص وحكايات تستكشف الظاهرة الجنسانية المثلية في سوريا، وعوالم المثليين السريّة وأحلامهم في مواجهة التهميش والاختفاء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أبصرت مجلة “موالح”، التي تُعنى بشؤون المثلية في سوريا، النور بين عامي 2012 – 2014، وصدر منها حتى الآن 14 عدداً بصيغة رقميّة،  وهي تُعتبر تجربة نادرة في مجال  التعبير الثقافي والفنيّ والسرديّ في سوريا، إذ أتاحت فرصة لسرديات المثليّة المهمشة بأن تجد لنفسها مساحة وحضناً لاستكشاف تقنيات التهميش التي يتعرض لها المثليون في سوريا، وبعض من عوالمهم، خصوصاً أن توقيت صدورها بعد اندلاع الثورة السوريّة بعام واحد، يدلّ على الفرصة السانحة التي شكلتها الثورة السوريّة للمجتمع لمثليّ لـ”الظهور” وإعلاء صوته.

يشرح فريق التحرير سبب اختيار الاسم بقولهم: “وقع الاختيار على موالح لأسباب عدة، فنحن كمجتمع مثليّ نعدّ كالموالح في التنوع، فلكل منا رغبات ومواصفات وأفكار، لكنّ ما يجمعنا هو رغبة كل منا في تحسين واقع مجتمعنا المثليّ، لننال حقوقنا كبقية أفراد المجتمع، ذلك المجتمع الذي يحبّ الموالح، والذي سنصل به ومعه يوماً إلى أن يحبّ أبناءه وبناته جميعاً، بقدر حبّه للموالح”. 

تنقسم المجلة إلى 11 باباً، كل منها يُعنى بموضوعة أو مجال (الصحة الجنسية، أخبار المجتمع المثلي، مقالات الرأي، استبيانات، وصفحة للسينما والأفلام، وغيرها). 680 صفحة حررها فريق تحرير سوري، وللمرة الأولى مثلي في ميوله وقضاياه، وفي اختياره الموضوعات والأعمال الفنية والأفلام، وغيرها. يجدر بالذكر أن محرر المجلة  اختار اسم “سامي حموي” لإخفاء هويته أثناء وجوده في سوريا، التي اضطر لتركها لاحقاً والذهاب إلى تركيا.

رعت المجلة من تركيا مسابقة “MR.gay syria” عام 2016، المسابقة المتواضعة كانت محاولة لظهور هذه الفئة “المهمّشة قسراً” إلى العلن، والتي نتج منها فيلم  يصور المسابقة ورحلة المثليين الهاربين من سوريا وسعيهم الى الوصول إلى أوروبا. وخصصت المجلة باباً خاصاً بالقصص، بعنوان “عجوة”، تشرح الفقرة التالية سبب اختيار الإسم والعلاقة بالقصص: “العجوة هيي البذرة اللي بقلب أيّ شي، وهيي كلمة عامة، والأستاذ سرمد اقترح أنو يكون هالقسم خاص بالقصص تبعنا، المثليين يعني، وبلشنا نحط فيه قصصنا وقصصكم، هادا الحديث هو العجوة… هو البذرة اللي بدنا نكبرها ونخليها تفرّع موالح ونشاط باتجاه حقوق المثليّة”. نستعيد هنا بعض الحكايات التي نُشرت في “موالح” لمناسبة شهر الفخر المثليّ.

التوظيف السياسي للمصطلحات

تذكر “موالح” في افتتاحية العدد صفر الصادر عام 2012، بأن “رهاب المثلية كان أحد أسلحة كلَي طرفي النزاع. فقد بدأت المحطات التلفزيونيّة في سوريا حملة شعواء خلال العام الفائت على الأطراف المعارضة للنظام، والقنوات العربيّة وأصحابها. كان وقودها السيد علي الشيبي وادعاءاته الغريبة بأن من يشاركون في حملة الاحتجاجات والتظاهرات ضد النظام آنذاك هم “لوطيّون”، وقد بلغت به الصفاقة حد استخدام عبارة “لوطي يلاط به” عند حديثه عن صاحب مجموعة MBC”.

هذا الوعي باستخدام معاداة المثلية كسلاح سياسي اتضح في الثورة، وأصبح علنياً، وهذا ما تشير إليه القصص المنشورة في المجلة، التي تحاول رصد  الأثر الذي تمارسه المصطلحات على أحكام القيم، كـ”شاذ، مثلي، منتاك، …الخ”، ليصبح البحث عن معاني هذه المفردات كشفاً في الذات بالنسبة الى المراهق. إذ نقرأ في قصة (شاب من كون مختلف: جزء 2  حب وشهوة) عن شاب حصل على أول جهاز كومبيوتر في حياته، ليصل إلى شبكة الإنترنت وتكون أول كلمة بحث يختارها (شاذ).

ذلك كله في دليل قصصي على مدى النهم للتساؤل حول هذه المصطلحات – الهويات. وتتابع الحكاية عن الأحكام الدونية التي وصل إليها في بحثه العنكبوتي، والتي ترسخ قناعته بأنه مريض، نقرأ:

 “فتحتُ المتصفح وظهرت صفحة بها كتابة ملونة ومُربع فارغ؛ كَتبتُ في ذلك المُربع الكلمة التي أخذتُها شعاراً لي منذُ مدة “شاذ”؛ انتظرتُ وقتاً لعرض النتائج لأرى وأتفاجأ بالكم الهائل من الناس والمواضيع التي تُناقش هذهِ الكلمة؛ فأنا كُنتُ أعتقد أني الوحيد، لم أتوقَع أن أرى هذا الكم؛ مَرت الساعات كما مرت الأشهُر وأنا على هذه الحال، كانت كلمةُ “شاذ” قد أخذتني إلى مواضيع أقنعتني بأن مثليتي هي أمرٌ شاذ عن الطبيعة، وأني مريض نفسياً أحتاجُ إلى علاج قد يدوم طويلاً وقد يصل إلى العلاج بالصدمات الكهربائية في مُعظم الحالات. نعم لقد كُنتُ مُقتنعاً بمرضي ولكن لم أخبر أحداً، أنا مريض على حسبِ ما يقولهُ الإنترنت والكثير من الناس عليه مِمَن يزعمون بأنهم أطباء، وخُبراء، وذوي تَجارُب”.

تماهي الذات المهمّشة والمدينة الواسعة

لا يعد مضمون قصة “في البال” اعتيادياً في الأدب المثلي، فالقصة تروي علاقة عميقة تربط بين الراوية والمدينة، دمشق. تشكل هذه القصة تنويعة في علاقة ترابط، تماهٍ، وعطاء متبادل بين الذات المهمشة والمدينة الواسعة، الذات المهمشة ترغب في أن تكون اتساع المدينة، في الحب، في القدرات، والمعاني، إذ نقرأ:

 “من يومها غدت دمشق في قلبه أملاً، أضحت العودة إليها حلماً، وأصبحت مركز كونه وبوصلته. عاش شمالها، وعاش جنوبها، وكان قلبه فيها لسنوات قضاها بعيداً، تحمله إليها أغنيات فيروز ودخان سيجارة، حتى استطاع أن يعود، ولم تضن عليه دمشق بأي شيء، منحته ما يجعل للحياة في أي مكان معاني لا تنتهي، ولم تكتفِ بذلك، بل أرادت أن تغيّر فيه أشياء لم يكن ليظن أنها قد تتغير”.

نادراً ما يتغنى النص المثلي في المدينة بهذه الأسلوبية العميقة من التواصل، فمثلاً، حين يقع الكاتب المثلي في الحب فإنه يقارن حدود حبه وقدرات عطائه، بوساعة المدينة دمشق: 

“أصبح سيد الهوى قمره في كل مكان، ولم يعد يهتم للنهارات لأنه نسي النوم لشدة الوله، وبدت علائم الحب ترتسم على كل كلمة يقولها، حتى أصبح يريد اجتراح المعجزات لإسعاد قمره. أراد أن يكون كدمشق، لا يعرف حبه حدوداً، ولا تعرف إمكاناته مستحيلاً، لكنّ دمشق كانت تخبئ له المزيد على أيدي أبنائها من أقارب قمره، أرادت له أن يعرف ممَّ تعاني هي، أرادت أن يكون مثلها، أن يعرف معنى ألا يقدّر قيمتك من هم منك. انكشف سرّ قمره أمام أهله، وبدأت عذاباتهما معاً”.

المثلية في عالم النساء

نجد قصص العشق المثلي بأقلام النساء في “موالح”، لنلامس تعابير لغوية نادراً ما قدمت الثقافة العربية مساحة لها، من بين قصص العشق المكتوبة بأقلام نسائية تأتي افتتاحية قصة بعنوان “هيك حياتنا: بعيد عن قصتي”، يدخل السرد مباشرةً في تجسيد مشهد ثلاثي بين الراوية وعشيقتها وفتاة ثالثة مثيرة تظهر على التلفاز، هكذا يسمح لنا النص الأدبي أن نستكشف إشارات في التواصل العشقي أو الاجتماعي المثلي النسوي:

  “نظرت في عينيها وقلت مشيرةً للفتاة التي ظهرت للتو على التلفاز “جسدها مثير”. كانت نظرتي لا تنم عن مدح التحبب كما نفعل كفتيات، بل كنت أقولها لغرض، وعرفت أنها فهمت غرضي من نظرتها التي رمقتني بها، إلا أن نظرتها تلك لم تكن النظرة التي كنت أرجوها”. 

استيهامات ليلة القدر

القصص الشبقية متلازمة مع سابقتها، ففي قصة “خير من ألف شهر”، يتمنى الكاتب أحمد شعبان أن ينال في ليلة القدر مجامعة جنسية مرضية في حمام الرجال، وبعد أن يخرج من المكان يتعرض للتوقيف مع أصدقائه من قبل عناصر أمنية، الحكاية ترافق شاباً مثلياً في ليلة واحدة، هي ليلة القدر التي تتقاطع مع أسبوع الفخر المثلي في نهاية حزيران/ يونيو، وتتضمن الكثير من الأحداث الإباحية، أو الاستيهامات الجنسية، لكن الشبان يتعرضون للإهانة والتخويف من قبل عناصر أمنية في أحداث تلك الليلة، ما يجعلها أقرب الى الحكاية الوثائقية للواقع السياسي والاجتماعي في سوريا.

 “مرت المناسبات بسرعة من دون أن أنتبه، عيد الجيش السوري، تظاهرات حقوق المثلية (آخر أسبوع في حزيران)، ربما يأتي وقت تجتاح فيه حشود الحب الساحات كما يجتاحها الربيع بصمت، ليلة القدر. كنت أتمنى إحياء ليلة الأماني هذه في الحمام، قضيب طالع قضيب نازل، أحياناً، لا بل على الأغلب يلتهب قضيبي بفعل تمريغه بالغار الرخيص، حتى لا أقوى على لمسه خلال الساعة الأولى من دخولي الحمام، وتصبح حسرة علي إذا ما صادف شفة لسان مؤخرة تئن بالحنين إليه. أتساءل ما أطلب من الليالي المباركة، حشفة قضيب مختون أضاعته مداهمة للجند، مصير ينتهي باغتصاب الماء للروح والجسد (والماء ذكر)، أمنيات تليق بليلة خير من ألف شهر”.

انتهاكات السلطة للجسد المثلي

تمتلك القصص المثلية في المجتمع القمعي ذلك التجاور بين نصوص العشق والشبق وبين نصوص القمع والاغتصاب، يتكرر عنوان “اغتصاب” في أكثر من قصة، لكن أولى تلك القصص تظهر أمام القارئ تحمل عنوان “اغتصاب في زنزانة”، وهي تروي عذابات المثليين/ات في تعامل قوى الشرطة والأمن الحكومية معهم/ن، فبالإضافة إلى الاحتقار والإذلال، يعمد رجال الشرطة في غالبية الحالات إلى اغتصاب الجسد المثلي باعتباره عاجزاً عن التعبير أمام المجتمع وأمام القانون، وتبين القصة أن الخوف من إخبار الأهل والمجتمع يقود المثليين/ات إلى الإذعان لكل انتهاكات رجال الشرطة والأمن الحكومي، والرضوخ إلى ما ينتهك حقوق الإنسان، وأيضاً إلى الاعتداءات الجسدية والجنسية: 

“بدأ الإذلال منذ لحظة الاعتقال، وكانت كلمات التحقير تنهال من كل حدبٍ وصوب، تصل بينها أوامر بالصعود إلى عربة الشرطة لم يكن أيٌّ منهم بحاجة إليها، فقد عرفوا أنهم مستهدفون، وقبل أن يفكروا بطريقة وإمكان خروجهم من الزنزانات التي لما بعد رأوها، بدأت أفكارهم تأخذهم إلى الساعة التي ستلي إطلاق سراحهم… هل سيعرف أهاليهم ميولهم الجنسية؟ هل سيعرفها أهل الحيّ؟ هل سيعرفها زملاؤهم في العمل وأصدقاء الطفولة؟. توسلوا جميعاً لآسريهم، وطلبوا الصفح عن ذنوب لم يقترفوها، لكنّ صخب التحقير والإهانات كان أعلى من أنّات التوسل، وضاعت ابتهالاتهم بين ميم ونون وألف وياء وكاف، وعرف كل من كان قريباً لحظتها أنّ هؤلاء جميعاً هم من ينعتهم البعض بالمنايك”. وتنتهي القصة بالإفصاح الذي يقدمه المعقل المثلي عما جرى معه في السجن، هو الذي يروي للكاتب تجربته في الاعتقال القائم على أساس الميول الجنسية، فلذلك تحمل القصة عنواناً آخر على موقع المجلة هو “اغتصاب في الاعتقال)”: “اغتصبوني، مو مرة، أكتر من مرة، وبكل مرّة كنت عم بتمنى قلبي يوقف”، هنا أوقفت (ع) عن الكلام، فما قاله يكفي ليجهز على قلبٍ لم يعِه المرض”.

أنا غاي أنا مش كافر

يتكاتف المنع الاجتماعي مع القمع الحكومي في رسم مصير المثلية الجنسانية، وذلك في المجتمعات التقليدية أو الدينية، وفي الأنظمة الشمولية، فالمنع الاجتماعي لا يقل إيلاماً وتأثيراً عن قمع الميول الجنسانية المغايرة. قصة “أنا مش كافر” نموذجية في دراسة علاقة العائلات، الدين، والطب السائد في التعامل مع الميول المثلية. تكتشف والدة الراوي في هاتفه المحمول، رسائل حب وجنس إلى أحمد.

وحين تخبر الأم خوري الكنيسة وتطلب منه التدخل، فإنه يتعامل مع الميل الجنسي كما شعوذات الساحرات، صدمات، وطرد الشر، واستخراج فساد الجسد:

 “لم يكتف الخوري بأن استدعى الأم وابنها، بل طلب أيضاً من أخيه، الطبيب النفسي، القدوم في ذلك اليوم، لبحث حالة (ج) وكيفية إخراجه منها. اقترح الأخ الطبيب طرقاً مختلفة للعلاج، تبدأ بجلسات المشاورة النفسية، وألمح أنها قد تصل إلى حد العلاج بالصدمات الكهربائية، لإخراج “الشرير” من جسد الفتى الذاهل من اتحاد جميع الآراء على شرّه وفساده. كانت تهديدات الخوري واضحة وبدت تعليماته صارمة”.

 إن الأثر النفسي والذهني لتلك التجربة هو الدافع في الحاضر لكتابة الراوي النص، وتوضح الجملة الأخيرة في القصة، الرغبة المستمرة المكبوتة للكاتب في النداء، الصياح، والتعبير عن حاله التي يحملها عنوان القصة:

 “لا تزال نظرات الخوري نحو (ج) تحمل الكثير من الشك والحكم بالفجور عليه، ولا يزال عقل (ج) حبيس لحظات جلسات الصدمات الكهربائية، ولا تزال أصداء أصوات صلوات الخوري تصدع رأسه، ليقول بين الحين والآخر لأصدقائه، “أنا مش كافر، أنا خلقت هيك””.

إعادة التأويل المثلي للأسطورة والحكاية

تتفرد قصة بعنوان “جلجامش وأنكيدو” في التعامل مع التراث الإنساني الأدبي، وإعادة تأويله وسرده من وجهة نظرة مثلية، أو بتأويل مثلي. إن القوة التي يكون عليها الملك جلجامش في الأسطورة البابلية، تؤول باعتبارها هيجاناً جنسياً لا يروى، ويروي نص القصة عن الممارسات الجنسية الكثيفة التي لا تروي بطش ورغبة جلجامش العارمة في المجامعة: “كان بأس جلجامش يجعل منه قلقاً أيضاً، كان هذا القلق في الجانب الذي يغري الآلهة والبشر على حد سواء، هذا كان حاجته الشديدة الى الجنس. مارس جلجامش الجنس مع أي فتاة أعجبته في مدينته/مملكته، وكان يشترط أن يشاطر كل فتاة سريرها في ليلة عرسها. 

وكان على رأس كل سنة يجسد حب عشتار لتموز بأن يمارس الحب مع كاهنة معبد الحب في رأس برج المعبد، فيعيدان خلق الحياة بأن يمارسا الجنس المقدس، هو تموز وهي إنانا، والجنس بينهما هو الحياة التي تُخلق مع بداية كل ربيع”. وكما هو معروف في الأسطورة، وكذلك في القصة المعاصرة، لم يكن هذا كله يهدئ من بال جلجامش. كان ثائراً طوال وقته. هاجسه في النهار أنه فانٍ، وهاجسه في الليل أن يجد من تشبع غرائزه. فخلقت الآلهة إنكيدو الرجل خارق القوة، وحشي الهوى، يعيش مع حيوانات الغابة، ويأكل معها ما تأكل. 

في هذه النسخة من القصة الأسطورية، يقرآن الصراع بين جسدي أنكيدو وجلجامش باعتباره تعبيراً عن رغبة تواصل جنسي كامنة، وتتداخل انفعالات القوة مع المشاعر العشقية، وترسم القصة مشهد النزاع بالتركيز على التفاصيل الدالة على الأثر الجنسي:

 “ولكن مع احتدام الصراع، يتحوّل القتال إلى حالة مفعمة بالمشاعر المتضاربة. إنكيدو، الإنسان الوحش، المغطى بالشعر، يكاد يكافئ جلجامش في قوته. جسداهما متعرقان متلاصقان. وجلجامش، وللمرة الأولى، يجد من يتحمل ضرباته، بل ويردها بأقوى منها. تلتحم الأيدي في عراكهما، يقارب جلد أحدهما جلد الآخر، يجفف نفس الأول العرق المنساب على وجه الثاني”.

هواجس الميل المثلي في وجه الكتابة

تحضر موضوعة الكتابة في عدد من قصص الأدب المثلي، في قصة “شاب من كون مختلف: جزء 1 الطفولة”، يصبح غياب القدرة الكتابية هاجساً يؤرق الراوي، ومن فقدان هذه القدرة على الكتابة تتسلّل وحوش النفس لتحتل مساحة الوعي، وتُشكل الأصوات الداخلية عالماً من الكوابيس والأخيلة، مع الفقرة التالية تبلغ القصص المثلية واحداً من أعلى مستوياتها الأدبية: 

“مُنذُ مدة لم يَزُرني وحي الكتابة، ولم أكتب أي شيء يُقرأ أو أفكر بشكل سَليم، فقد كُنت دائماً مشغولاً بِطردِ الأصوات الدخيلة التي لا تنتمي إلى تفكيري، لم أختَبِر أي شيء كهذا الإحساس مِن قبل؛ أفكار، وخيالات، وكوابيس؛ تتصادم جَميعُها لِتُصبِحَ كياناً واحِداً داخِلَياً، وأحياناً تتجَسد كوجهِ طفلٍ مألوفٍ لي، لِيتكًلَمَ معي أحياناً، ويقودُني أحياناً لفعلِ أشياء لا يُمكن لي فِعلها بكامِلِ إرادتي، لكنني ما زِلتُ مسيطِراً ولو كانَ ما تبقى مِن عقلي هُوَ العلية، فالوحوش قد احتَلت بقية الغُرَف، وحوش منِ كافِة الأشكالِ والأحجام تتربص مِن الزوايا، المُظلمة مِنها والمنيرة، جاهِزةً للهُجوم. ما الذي حدثَ لي وجَعلني أخشى نفسي؟ لا أستطيعُ تذكر الكثير فكُل ذكرياتي تتسَكع عِندَ لحظة قد فصلت ذاتَ مرةٍ أوهامي من ابتلاعِ واقعي”.

الكتابة في اكتشاف الذات

القصة الثانية التي نعثر فيها على موضوعة الكتابة قصة “مذكرات إنسان معاصر: المواطن G  عن قصة حقيقية)، وفيها تلعب كتابة الذكريات دوراً في تحقيق توازن بين الذات والحالة النفسية والذهنية التي تعايشها، ومع كل سطر تخطه تساعد الكتابة “الذات المريضة” على اكتشاف مساحات جديدة من ذاتها، إذ نقرأ:

“كانت هي على موعد مع معركتها الشرسة “المرض وميولها”. ومع كل يوم تتظاهر فيه بغير ما هي عليه، تزداد عزلتها، فوجدت قراءة الروايات والقصص أكثر عذوبة وجمالاً من واقعها. كان شروعها في كتابة المذكرات خطوة حقيقية وبحثاً عن الرضا الداخلي وقهراً لمخاوفها، مع كل سطر تخطه تتعرف فيه على جوانب خفية عن ذاتها، رغم إرهاقها للنفس. فأبصرت النور من بعد ظلام، وأدركت حينها من تكون، واستكمالاً لبقية الشطر من حلمها أن تصبح أستاذة جامعية وكاتبة قصص، تعمل على نشر ثقافة الإنسان العابرة لكل الحدود والمحاذير، لإيمانها بأن المثقفين هم من يعوَّل عليهم في هذه المرحلة العصيبة”.

تبلغ قصة “أخاف أهلي لأن صديقي مثلي”، أهمية استثنائية لأنها مكتوبة من أحد أعضاء فريق التحرير في مجلة “موالح”، وفيها يبين صعوبة العثور على نصوص وكتابات في مجال المثلية، وكذلك صعوبة الحصول على آراء أو شهادات في هذا المجال، لذلك، تعتبر القصة بمثابة شهادة في تجربة تحليل صفحة ثقافية في مجالات المثلية، إذ نقرأ:

 “في مرحلة الإعداد لهذا العدد من موالح، أرسلت إليه طالباً منه أن يكتب عن المشاعر والأفكار التي راودته عندما صارحته بمثليتي، فأرسل إلي ما طلبت، مختتماً رسالته بكلمة أضحكتني كثيراً، إذ قال: “بشرفك خلي الاسم مستعار… يا زلمة موضوع صعب… انشالله يعجبك… سلام…”.

قصص السياسة والحرب

انطلقت مجلة “موالح” منذ العام 2012، أي بعد عام من الثورة السورية، وبالتالي فإن النصوص القصصية فيها تتضمن إحالات إلى موضوعات السياسة ومن ثم الحرب، ومن هنا يمكن الاطلاع على أدبيات مثلية تعالج الآثار السياسية في تلك المرحلة.  نجد في قصة “بحثاً عن الخلاص”، حدثاً جديداً في التاريخ السوري، لم يوجد قبل 2011، فالقصة التي تروي صعوبة التواصل بين العشاق المثليين، تتابع إيقاف علاقة مثلية مثالية بسبب الميول السياسية بين الحبيب المعارض والمعشوق الموالي، نقرأ:

“إن الانقسام الحاد في الشارع السوري عرّضه للخطر مرات عدة، يذكر أقساها حين سافر إلى مدينة خارج سوريا ليلتقي بشاب تعرف عليه عبر الإنترنت. كانت التضحية كبيرة. للوهلة الأولى، بدت الأمور بخير، قبل أن يكتشف ماجد موقف حبيبه السياسي، حيث اكتشف أنه موال لدرجة لا يتقبلها المنطق. في البداية، حاول ماجد إخفاء معارضته أمام الحبيب. لكنه لم يحتمل سماع الأخبار الملفّقة والازدراء اللفظي بحق من يدافع ماجد عنهم ويتبنى حقهم في الحرية والكرامة. لم يدم الوفاق لينتهي بانسحاب ماجد قبل انقطاع الخيط الأخير في علاقتهما. وفضّل العودة إلى سورية بعدما خسر حبيباً كان قد أذهله بكل المقاييس من حب وحنان ودفء”.

يمكن تصنيف قصة “زر وكوندوم وشوية حكي” ضمن إطار يوميات مثلية في زمن الحرب: 

“المثليون، كبقية السوريين طالت عليهم الأزمة حتى ضاقت بهم الحال، وأصبح هدفهم الهروب من الواقع، والابتعاد من مآسيه بأي وسيلة ممكنة. وقد حاولنا أن نجد وسائل لذلك، وكبقية السوريين وجدنا بعضاً منها هنا أو هناك”. وتؤكد القصة مشاركات المثليين في توزيع المساعدات الإنسانية، وقد عرف الكثيرون منا أيضاً أن المساهمة الوحيدة الممكنة تكمن في المساعدات الإنسانية لمن يحتاجها، وما أكثرهم في هذه البلاد، وقد شغل الكثير من المثليين أنفسهم في هذا العمل. من المثليين كثر ممن يعملون تحت رعاية منظمة الهلال الأحمر، يسعفون الجرحى وينقلون المصابين، وكثير من المتطوعين هناك هم مثليون يعملون نهاراً في الهلال الأحمر، ويذهبون ليلاً لبيوتهم يمارسون الحب مع شركائهم، أو ربما مع عابر سبيل يريد، كما قد يريد أحدهم أيضاً، أن ينفث عن ضغوط يومه، وما أكثرها على السوري حتى من غير حروب”. 

تروي الحكاية أيضاً  تفاصيل الجنسانية المثلية في زمن الحرب: 

“وبذا كانت وسيلة المثلي الأخرى في دحر عناء الحرب عن كاهله. ممارسة الحب! جنساً وعاطفةً على حد سواء. ترى اثنين في إحدى الحدائق العامة يجلسان بجانب بعضيهما، ينظر أحدهما بخفر في عين الآخر، ثم يخفي نظرته بضحكة خجولة. “عليّ أن أذهب” يقول الأول. “ابق قليلاً بعد!” يرد الثاني وهو يمسك يد الأول بحجة إيقافه، ثم يتحسسها بلطف وتحبب. لقاء أول لهما، وموعد اختاراه في مكان عام وفي زمن عام. هو حب في زمن الحرب. قصص هاربة من الروايات، تهرُب بأبطالها من واقع الحرب، وتأخذهم الى عوالم أخرى هي في الزمان ذاته والمكان ذاته، ولكنها من غير واقع”.